الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الأخبار فقد قال : صلى الله عليه وسلم : فيما رواه ابن مسعود أريت الأمم في الموسم فرأيت أمتي قد ملأوا السهل والجبل فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم فقيل لي أرضيت ؟ قلت : نعم قيل ، ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة وقال يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اجعله منهم ، فقام آخر فقال يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : صلى الله عليه وسلم سبقك بها عكاشة وقال : صلى الله عليه وسلم : لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا وقال : صلى الله عليه وسلم من انقطع إلى الله : عز وجل : كفاه الله تعالى كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها وقال : صلى الله عليه وسلم من سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما عند الله أوثق منه بما في يديه ويروى عن رسول الله : صلى الله عليه وسلم : أنه كان إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا إلى الصلاة ويقول بهذا أمرني ربي عز وجل قال عز وجل وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها الآية وقال : صلى الله عليه وسلم لم يتوكل من استرقى واكتوى .

وروي أنه لما قال جبريل لإبراهيم عليهما السلام : وقد رمي إلى النار بالمنجنيق ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا وفاء بقوله حسبي الله ونعم الوكيل إذ قال ذلك حين أخذ ليرمى فأنزل الله تعالى وإبراهيم الذي وفى .

وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : يا داود ما من عبد يعتصم بي دون خلقي فتكيده السماوات والأرض إلا جعلت له مخرجا .

التالي السابق


( وأما الأخبار فقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه ابن مسعود) - رضي الله عنه - وهو فيما رواه المصنف عن إمام الحرمين عن أبيه عن أبي القاسم القشيري قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، حدثنا عبد الله بن أحمد بن جعفر الأصبهاني، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (أريت الأمم في الموسم فرأيت أمتي قد ملئوا السهل والجبل فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم فقيل لي: رضيت؟ قلت: نعم، قال ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة) بن محصن الأسدي - رضي الله عنه - (وقال يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: اللهم اجعله منهم، فقام آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال - صلى الله عليه وسلم - سبقك بها عكاشة) هكذا رواه القشيري في الرسالة .

وقال العراقي: رواه ابن منيع بإسناد حسن واتفق عليه الشيخان من حديث ابن عباس. اهـ .

قلت: رواه الشيخان من طريق حصين بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ: عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قيل: من هم يا رسول الله قال هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون. ثم ذكر قول عكاشة وقوله - صلى الله عليه وسلم - أنت منهم إلى آخره .

ورواه كذلك أحمد وأما لفظ حديث ابن مسعود: عرضت علي الأنبياء بأممها فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة، والنبي ومعه العصابة، والنبي ومعه النفر، والنبي وليس معه أحد، حتى عرض علي موسى معه كبكبة من بني إسرائيل فأعجبوني فقلت: من هؤلاء؟ فقيل: هذا أخوك موسى ومعه بنو إسرائيل قلت: فأين أمتي؟ قيل: انظر عن يمينك فنظرت فإذا الظراب قد سد بوجوه الرجال، ثم قيل لي: انظر عن يسارك فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه [ ص: 388 ] الرجال فقيل لي: أرضيت؟ فقلت: رضيت يا رب رضيت يا رب، فقيل: إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، فدى لكم أبي وأمي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين ألفا فافعلوا، فإن قصرتم فكونوا من أهل الظراب، فإن قصرتم فكونوا من أهل الأفق، فإني قد رأيت أناسا يتهارشون كثيرا إني أرجو أن يكون من يتبعني ربع أهل الجنة إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة فقام عكاشة فقال: ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني من السبعين ألفا فدعا له، فقام آخر فقال: ادع الله لي أن يجعلني منهم، فقال: قد سبقك بها عكاشة، فقيل: من هؤلاء السبعون ألفا؟ فقال: هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.

رواه هكذا عبد الرزاق وأحمد والطبراني والحاكم وعند الطبراني وعمر بن شبة من طريق نافع مولى بنت شجاع عن أم قيس ابنة محصن قالت: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي حتى أتينا البقيع فقال: يا أم قيس يبعث من هذه المقبرة سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، فقام رجل فقال: أنا منهم؟ قال: نعم، فقام آخر فقال: أنا منهم؟ فقال: سبقك بها عكاشة. وأم قيس هذه أخت عكاشة صحابية طال عمرها .

وللطبراني في الكبير مختصرا: يا أم قيس أترين هذه المقبرة؟ يبعث الله منها سبعين ألفا يوم القيامة على صورة القمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يعني البقيع، وقد روى الديلمي حديث ابن مسعود مختصرا: يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر .

(وقال - صلى الله عليه وسلم - : لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله) بأن تعلموا يقينا أن لا فاعل إلا الله، وأن كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع من الله ثم تسعون في الطلب على الوجه الجميل (لرزقكم كما ترزق الطير) بضم المثناة الفوقية على صيغة المجهول. زاد في رواية: في جو السماء (تغدو خماصا) جمع خميص أي: ضامرة البطون من الجوع (وتروح) أي: ترجع (بطانا) جمع بطين أي: ممتلئة البطون .

وإنما مثل بالطير لأن الأركان المتجمعة في الأبدان طوائر تطير إلى أوكارها ومراكزها فأخبر بأن الرزق في التوكل على الله لا بالحيل والعلاج. قال العراقي: رواه الترمذي والحاكم وصححاه من حديث عمر، وقد تقدم. اهـ .

قلت: ورواه أيضا ابن المبارك والطيالسي وأحمد والنسائي وابن ماجه وأبو يعلى وابن حبان والبيهقي والضياء وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي.

(وقال - صلى الله عليه وسلم - من انقطع إلى الله - عز وجل -) بأن كان اعتماده عليه لا على الأسباب (كفاه الله تعالى كل مؤنة) أي: مشقة (ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها) قال العراقي رواه الطبراني في الصغير وابن أبي الدنيا ومن طريقه البيهقي في الشعب من رواية الحسن عن عمران بن الحصين ولم يسمع منه وفيه إبراهيم بن الأشعث تكلم فيه أبو حاتم. اهـ .

قلت: ورواه كذلك الحكيم في النوادر وابن أبي حاتم والخطيب وإبراهيم بن الأشعث خادم الفضيل قال أبو حاتم: كنا نظن به الخير فقد جاء بمثل هذا الحديث .

(وقال - صلى الله عليه وسلم - من سره أن يكون عند الله أغنى الناس فليكن بما عند الله أوثق منه بما في يده) قال العراقي: رواه الحاكم والبيهقي في الزهد من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف. اهـ .

قلت: لفظ الحاكم والبيهقي: من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله. ورواه كذلك عبد بن حميد وإسحاق بن راهويه وابن أبي الدنيا في التوكل وأبو يعلى والطبراني وصاحب الحلية كلهم من طريق هشام بن زياد أبي المقدام عن محمد القرظي عن ابن عباس قال البيهقي في الزهد: تكلموا في هشام بسبب هذا الحديث .

(ويروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه) كان (إذا أصاب أهله خصاصة) أي: فقر وحاجة (قال: قوموا إلى الصلاة و) كان (يقول بهذا أمر في ربي قال - عز وجل - وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) قال العراقي: رواه الطبراني في الأوسط من حديث محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل بأهله الضيف أمرهم بالصلاة ثم قرأ هذه الآية، ومحمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام إنما ذكروا له روايته عن أبيه عن جده فيبعد سماعه من أبي جده. اهـ .

قلت: وبهذا اللفظ رواه أبو عبيد في المصنف وسعيد بن منصور وابن المنذر وصاحب الحلية [ ص: 389 ] والبيهقي في الشعب وقد صحح البيهقي إسناده وكأنه أثبت سماعه من أبي جده أو أنه سقط في سياق الطبراني عن أبيه .

وأما لفظ المصنف فرواه أحمد في الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ثابت قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله بالصلاة صلوا صلوا، قال ثابت: كانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة.

وروى عبد الرزاق وعبد بن حميد عن معمر عن رجل من قريش قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل على أهله بعض الضيق في الرزق أمر أهله بالصلاة ثم قرأ هذه الآية: وأمر أهلك بالصلاة الآية.

(وقال - صلى الله عليه وسلم - لم يتوكل على الله من استرقى واكتوى) قال العراقي: رواه الترمذي وحسنه والنسائي في الكبرى وابن ماجه والطبراني واللفظ له إلا أنه قال: أو اكتوى، من حديث المغيرة بن شعبة، وقال الترمذي: من استرقى أو اكتوى فقد برئ من التوكل. وقال النسائي ما توكل من اكتوى أو استرقى. اهـ .

قلت: وبلفظ الترمذي رواه أحمد والحاكم والبيهقي بلفظ المصنف ورواه الطيالسي والبيهقي إلا أنه بلفظ: أو .

(وروي أنه لما قال جبريل لإبراهيم - عليهما السلام - وقد رمي إلى النار بالمنجنيق ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا وفاء بقوله حسبي الله ونعم الوكيل إذ قال ذلك حين أخذ ليرمى) روى عبد بن حميد عن سليمان بن صرد وكان قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما ذهب بإبراهيم ليطرح في النار قال: إني ذاهب إلى ربي سيهدين، فلما طرح في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، وروى ابن جرير عن معتمر بن سليمان عن بعض أصحابه قال: جاء جبريل إلى إبراهيم وهو يوثق ليلقى في النار قال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، ورواه أحمد من وجه آخر فزاد: فسل من لك إليه حاجة، فقال أحب الأمرين إلي أحبهما إليه .

(وأوحى الله تعالى إلى داود - عليه السلام - : يا داود ما من عبد يعتصم بي دون خلقي فتكيده السماوات والأرض جعلت له مخرجا) رواه تمام وابن عساكر والديلمي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رفعه بلفظ: وعزتي يا داود ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السماوات بمن فيها والأرض بمن فيها إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء بين يديه وأرسخت الهوى من تحت قدميه وما من عبد يطيعني إلا أنا معطيه قبل أن يسألني ومستجيب له قبل أن يدعوني وغافر له قبل أن يستغفرني. وفيه يوسف بن الغر متروك يكذب، وقال البيهقي: هو في عداد من يضع الحديث، ورواه صاحب القوت فقال: وفي أخبار وهب وكعب من الكتب السالفة يقول الله تعالى: أقسم بعزتي فذكر نحو ما ذكرناه .




الخدمات العلمية