الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أما الزاهدون المحبون لله تعالى فقاتلوا في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص وانتظروا إحدى الحسنيين وكانوا إذا دعوا إلى القتال يستنشقون رائحة الجنة ويبادرون إليه مبادرة الظمآن إلى الماء البارد حرصا على نصرة دين الله .

أو نيل رتبة الشهادة . وكان من مات منهم على فراشه يتحسر على فوت الشهادة حتى إن خالد بن الوليد : رضي الله تعالى عنه : لما احتضر للموت على فراشه كان يقول : كم غررت بروحي وهجمت على الصفوف طمعا في الشهادة وأنا الآن أموت موت العجائز ، فلما مات عد على جسده ثمانمائة ثقب من آثار الجراحات هكذا كان حال الصادقين في الإيمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين .

وأما المنافقون ففروا من الزحف خوفا من الموت فقيل لهم : إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم فإيثارهم البقاء على الشهادة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين .

وأما المخلصون فإن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة فلما رأوا أنهم تركوا تمتع عشرين سنة مثلا أو ثلاثين سنة بتمتع الأبد استبشروا ببيعهم الذي بايعوا به فهذا بيان المزهود فيه .

وإذا فهمت هذا علمت أن ما ذكره المتكلمون في حد الزهد لم يشيروا به إلا إلى بعض أقسامه ، فذكر كل واحد منهم ما رآه غالبا على نفسه أو على من كان يخاطبه فقال بشر رحمه الله تعالى الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس وهذا إشارة إلى الزهد في الجاه خاصة .

التالي السابق


(أما الزاهدون المحبون لله تعالى فقاتلوا في سبيل الله) كما أخبر عنهم الله تعالى في كتابه: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا أي: مصطفين ( كأنهم بنيان مرصوص ) في تراصهم من غير فرجة، والرص اتصال بعض البناء بالبعض واستحكامه، (وانتظروا إحدى الحسنيين) [ ص: 342 ] مثنى الحسنى تأنيث الأحسن كما قال تعالى: تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين (وكانوا إذا دعوا إلى القتال يستنشقون رائحة الجنة) ويرون الحور العين عيانا (ويبادرون إليه) أي: إلى القتال (مبادرة الظمآن) في الهاجرة (إلى الماء البارد حرصا على نصرة دين الله) لتكون كلمة الله هي العليا (أو نيل رتبة الشهادة .

وكان من مات منهم على فراشه يتحسر على فوت الشهادة) لعلو رتبتها عندهم (حتى إن) سيف الله أبا سليمان (خالد بن الوليد) بن المغيرة بن عبد الله المخزومي القرشي (- رضي الله عنه - لما احتضر للموت على فراشه) بالمدينة على الأصح أو بمدينة حمص على الأشهر (كان يقول: كم غررت بروحي وهجمت على الصفوف طمعا في الشهادة وأنا الآن أموت موت العجائز، فلما مات عد على جسده ثمانمائة ثقب من آثار الجراحات) في سبيل الله .

شهد غزوة مؤتة وكان الأمير الثالث وأبلى في غزوة الفتح بلاء حسنا، ثم شهد حنينا والطائف في هدم القرى، واليرموك وأسر أكيدر دومة، وقاتل أهل الردة قتالا عظيما، وافتتح دمشق، قال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا محمد بن عبيد، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي خالد عن زياد مولى آل خالد قال: قال خالد عند موته: ما كان في الأرض ليلة أحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم العدو فعليكم بالجهاد. وروى أبو يعلى من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: قال خالد: ما ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب أو أبشر فيها بغلام أحب إلي من ليلة شديدة الجليد. فذكر نحوه .

وقال ابن المبارك في كتاب الجهاد عن حماد بن زيد، حدثنا عبد الله بن المختار عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل، ثم شك حماد في أبي وائل، قال: لما حضرت خالدا الوفاة قال: لقد طلبت القتل مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي وما من عملي شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس والسماء تهيلني ننتظر إلى صبح حتى نغير على الكفار.

(وكذا كان حال الصادقين في الإيمان، وأما المنافقون ففروا من الزحف خوفا من الموت فقيل لهم: إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم فإيثارهم البقاء) في الدنيا (على الشهادة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) يعني رغبوا في البقاء الأدنى لما اشتروه ببيع البقاء الآخر الأعلى على الأبقى إذ باعوه ( فما ربحت تجارتهم ) فمن اشترى ثلاثين سنة أو أربعين سنة بألف ألف وبأبد الآباد فكيف تربح تجارته ( وما كانوا مهتدين ) أي: ممن هدي سبيله، فهذه تجارة من رغب في حياة دنية فاشتراها ببقاء أبد الآباد فقد صار بائعا للحياة الغالية بما استبدل به من اشتراء الحياة الدانية .

(وأما المخلصون فإن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) فهم لأنفسهم وأموالهم بائعون كما قال الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين الآية، (فلما رأوا أنهم تركوا تمتع عشرين سنة أو ثلاثين سنة بتمتع الأبد استبشروا ببيعهم الذي بايعوا به) كما قال تعالى: فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به فشتان بين التجارتين وفرقان ما بين الربحين .

(فهذا بيان المزهود فيه) فإذا كان حب البقاء هو الدنيا ينبغي أن يكون حب لقاء الله الباقي هو الزهد، فصار الزهد في الدنيا هو الزهد في البقاء وصارت الرغبة في البقاء مثل اتباع الهوى الذي هو الدنيا، فمن زهد في الحياة الفانية للمتعة بها أو في ماله المجموع بالجهاد للنفس والإنفاق في سبيل الله فقد زهد في الدنيا، ومن زهد فيها أحبه الله تعالى .

ولذلك صار الجهاد من أفضل الأعمال; لأنه حقيقة الزهد في الدنيا، ولأن الله يحب من زهد فيها بأنه قد قتل نفسه فيها فاستعجل الخروج إليه منها، ثم كان مخالفة الهوى أفضل الجهاد; لأنه هو حقيقة الرغبة في الدنيا، فالزاهد في هوى نفسه هو حبيب ربه، والراغب في حب البقاء لنفسه منافق في دين ربه وبه كشف الله الكاذبين ووصفهم بمرض القلوب .

وظهر مما ذكرنا أن حقيقة الدنيا هو حب البقاء لطاعة الله ومرافقة الهوى في حب العرض لأجل البقاء من الدنيا، فدخل أحد هذين في الآخر; لأن حب البقاء لأجل المتعة هو من الهوى الذي هو صفة النفس الأمارة بالسوء وطاعة الهوى الذي هو عيش النفس إنما يكون لحب البقاء; لأن العبد لو أيقن بالموت ساعة لآثر الحق على الهوى، ولو أيس من البقاء لما رغب في العرض الأدنى فصار حب البقاء من الهوى وصار إيثار الهوى إنما هو لحب البقاء فكان ذلك هو حقيقة [ ص: 343 ] الدنيا، فصار أقصر الناس أملا للبقاء أزهدهم في الدنيا وصار أرغب الناس في الدنيا أطولهم أملا .

(وإذا فهمت هذا علمت أن ما ذكره المتوكلون) من الصوفية (في حد الزهد لم يشيروا به إلا إلى بعض أقسامه، فذكر كل واحد ما رآه غالبا على نفسه) إذا كان مقاما له أقيم فيه، أو حالا له (أو على ما كان يخاطبه) على قدر حاله أو مقامه (فقال بشر) بن الحارث الحافي - رحمه الله تعالى -: (الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس) وفي ملاقاتهم، إذ الرغبة هي فيهم، وفيما عندهم .

نقله صاحب القوت وقال في موضع آخر: وكان بشر يقول: الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس; لأنه كان يقول: حب لقاء الناس وهو من الدنيا لأنه المرغوب فيه عندهم ويتسبب إليه بهم فلذلك صار الزهد فقدهم، ولذلك قال بعض الحكماء: إذا طلب الزاهد من الناس فاهرب منه، وإذا هرب من الناس فاطلبه، وهذا هو حال الزاهد العابد المشغول بنفسه .

(وهذا إشارة إلى الزهد في الجاه خاصة) ومثله قول السري: مارست كل شيء من أمر الزهد فنلت منه ما أريد إلا الزهد في الناس فإني لم أبلغه ولم أطقه. رواه القشيري عن أبي عبد الله الصوفي سمعت أبا الطيب السامري يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: فذكره .




الخدمات العلمية