الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وروي عن عطاء أنه قال : دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكت وقالت : وأي شأنه لم يكن عجبا أتاني ليلة فدخل معي في فراشي أو قالت : في لحافي حتى مس جلدي جلده ثم قال : يا ابنة أبي بكر ذريني أتعبد لربي فقالت ، قلت إني أحب : قربك لكني أوثر هواك فأذنت له فقام إلى قربة ماء فتوضأ فلم يكثر صب الماء ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى ، فلم يزل كذلك يبكي حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة : فقلت : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا ولم لا أفعل ذلك وقد أنزل الله تعالى علي : إن في خلق السماوات والأرض الآية .

وهذا يدل على أن البكاء ينبغي أن لا ينقطع أبدا ، وإلى هذا السر يشير ما روي أنه مر بعض الأنبياء بحجر صغير يخرج منه ماء كثير فتعجب منه فأنطقه الله تعالى فقال : منذ سمعت قوله تعالى وقودها الناس والحجارة فأنا أبكي من خوفه : فسأله أن يجيره من النار فأجاره ثم رآه بعد مدة على مثل ذلك فقال : لم تبكي الآن فقال ذاك : بكاء الخوف ، وهذا بكاء الشكر والسرور وقلب العبد كالحجارة أو أشد قسوة ولا تزول قسوته إلا بالبكاء في حال الخوف والشكر جميعا وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ينادى يوم القيامة ليقم الحمادون فتقوم زمرة فينصب لهم لواء فيدخلون الجنة قيل : ومن الحمادون ؟ قال : الذين يشكرون الله تعالى على كل حال .

وفي لفظ آخر : الذين يشكرون الله على السراء والضراء وقال صلى الله عليه وسلم : الحمد رداء الرحمن .

وأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام إني رضيت بالشكر مكافأة من أوليائي في كلام طويل وأوحى الله تعالى إليه أيضا في صفة الصابرين أن دارهم دار السلام إذا دخلوها ألهمتهم الشكر ، وهو خير الكلام ، وعند الشكر أستزيدهم ، وبالنظر إلي أزيدهم ولما نزل في الكنوز ما نزل قال عمر رضي الله عنه أي : المال نتخذ ؟ فقال عليه السلام : ليتخذ أحدكم لسانا ذاكرا أو قلبا ، شاكرا .

فأمر باقتناء القلب الشاكر بدلا عن المال وقال ابن مسعود الشكر نصف الإيمان .

التالي السابق


(وروي عن عطاء بن أبي رباح) فيما أخرجه أبو القاسم القشيري في الرسالة فقال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان الأهوازي أخبرنا أبو الحسن الصفار حدثنا الأسقاطي حدثنا سنجاب حدثنا يعلى عن أبي جناب، عن عطاء (قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها) مع عبيد بن عمير (فقلت) : يا أم المؤمنين (أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وقالت: وأي) شيء من (شأنه لم يكن عجبا) إنه (أتاني ليلة فدخل معي في فراشي أو قالت: في لحافي حتى مس جلدي جلده ثم قال: يا ابنة أبي بكر ذريني) أي: اتركيني (أتعبد لربي، قالت قلت: إنى أحب قربك مني) ثم وافقته في مطلوبه (لكني أوثر هواك فأذنت له) فيه (فقام إلى قربة) من (ماء) وكانت معلقة فحلها (فتوضأ) منها، (فلم يكثر صب الماء) أي: توضأ وضوءا خفيفا، ولفظ الرسالة: فأكثر صب الماء، أي: على أعضائه فأحسن وضوءه (ثم قام يصلي فبكى) وهو قائم (حتى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى) وهو راكع (ثم رفع رأسه فبكى ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى، فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه) بالمد أي: أعلمه (بالصلاة) أي: صلاة الفجر (فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا ولم لا أفعل ذلك) أي: أبكي (وقد أنزل الله علي: إن في خلق السماوات والأرض الآية) . قال العراقي : رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن طريقه ابن الجوزي وفيه ابن جناب، واسمه يحيى بن أبي حية، ضعفه الجمهور، ورواه ابن حبان في صحيحه من رواية عبد الملك بن سليمان عن عطاء دون قولها: وأي شأنه لم يكن عجبا، وهو عند مسلم من رواية عروة عن عائشة مقتصرا على آخر الحديث، اهـ .

قلت: لقد أبعد الشيخ النجعة وهذا قد أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي الدنيا في التفكر، وابن حبان في صحيحه وابن عساكر، كلهم من طريق عطاء، قال: قلت لعائشة أخبريني... الحديث، وفي آخره ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، ولفظ الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم قام حتى تورمت قدماه فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا، قال ابن حجر في شرح الشمائل: وقد ظن من سأله صلى الله عليه وسلم في سبب تحمله المشقة في العبادة أن سببها إما خوف الذنب أو رجاء المغفرة، فأفادهم أن سببا آخر أتم وأكمل هو الشكر على التأهل مع المغفرة وإجزال [ ص: 48 ] النعمة، وهو، أعني الشكر، الاعتراف بالنعمة، والقيام في الخدمة ببذل المجهود، فمن أدام ذلك كان شكورا، وقليل ما هم، ولم يفز أحد بكمال هذه المرتبة غير نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم سائر الأنبياء عليهم السلام، وإنما ألزموا بذلك في الجد في العبادة، وعظيم الخشية، لعلمهم بعظيم نعمة ربهم عليهم ابتداء بها فضلا ومنة من غير سابقة توجب استحقاقها أداء لبعض الشكر، وإلا فحقوقه تعالى أعظم من أن يقوم بها أحد من خلقه .

(وهذا يدل على أن البكاء ينبغي أن لا ينقطع أبدا، وإلى هذا السر يشير ما روي) في بعض الأخبار (أنه مر بعض الأنبياء) من بني إسرائيل (بحجر صغير يخرج منه ماء كثير فتعجب منه) لمخالفته العادة (فأنطقه الله تعالى) معه فسأله عن سبب ذلك (فقال: منذ سمعت قوله) تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم نارا (وقودها الناس والحجارة فأنا أبكي من خوفه) أي: من خوفي إياه أن يجعلني من تلك الحجارة، قال (فسأله) تعالى (أن يجيره من النار فأجاره) بوحي منه إليه، وعلم الحجر بذلك (ثم رآه بعد مدة على مثل ذلك) الحال (فقال: لم تبكي الآن) وقد غفر الله لك بدعائي؟ (فقال: ذلك بكاء الخوف، وهذا بكاء الشكر والسرور) . هكذا نقله القشيري في الرسالة .

وأنشدوا في المعنى:


هجم السرور علي حتى إنني ... من فرط ما قد سرني أبكاني يا عين صار الدمع عندي عادة
... تبكين في فرح وفي أحزان

ويقال: إن دمعة الحزن حارة، ودمعة السرور باردة، (وقلب العبد كالحجارة) أي: في شدته ويبسه، (أو أشد قسوة) منها، وذلك بنص القرآن (ولا تزول قسوته إلا بالبكاء في حال الخوف والشكر جميعا) ، فإنه يلينه ويزيل صلابته. (وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ينادى يوم القيامة ليقم الحمادون) أي: كثيرو الحمد لله تعالى على نعمه (فتقوم زمرة فينصب لهم لواء فيدخلون الجنة قيل:) يا رسول الله (ومن الحمادون؟ قال: الذين يشكرون الله تعالى على كل حال. وفي لفظ آخر: الذين يشكرون الله على السراء والضراء) . قال العراقي رواه الطبراني ، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس بلفظ: أول من يدعى إلى الجنة الحمادون... الحديث، وفيه قيس بن الربيع ضعفه الجمهور اهـ .

قلت: لفظ الطبراني: أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء، ورواه كذلك أبو الشيخ والحاكم وابن مردويه.

(وقال صلى الله عليه وسلم: الحمد رداء الرحمن) هكذا هو في القوت. وقال العراقي : لم أجد له أصلا، وفي الصحيح "الكبرياء رداؤه"، وقد تقدم في العلم. (وأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام أني رضيت بالشكر مكافأة من أوليائي في كلام طويل) هكذا هو في القوت قال: وقد روينا في أخبار أيوب عليه السلام أن الله سبحانه أوحى إليه فذكره. (وأوحى الله إليه أيضا في صفة الصابرين أن دارهم دار السلام إذا دخلوها ألهمتهم الشكر، وهو خير الكلام، وعند الشكر أستزيدهم، وبالنظر إلي أزيدهم) نقله صاحب القوت فقال: وروينا في مناجاة أيوب عليه السلام أن الله تعالى أوحى إليه في صفة الصابرين فذكره، وهذا غاية الفضل. (ولما نزل في الكنوز ما نزل) وهو قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة الآية (قال عمر رضي الله عنه: فأي المال نتخذ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ليتخذ أحدكم لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا. فأمر باقتناء القلب الشاكر) واتخاذه مالا في الآخرة (بدلا عن المال) في الدنيا .

وشكر القلب هو مشاهدة المنعم في النعمة، وظهور المعطي عند العطاء حتى ترى النعمة عنده منة، والعطاء عنه، لأن الشكر عند الشاكرين معرفة القلب ووصفه لا وصف لسان. كذا في القوت، وقد عزاه ثوبان وعمر رضي الله عنهما .

قلت: رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وأبو نعيم في الحلية من حديث ثوبان: ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وزوجة مؤمنة تعين على أمر الآخرة، وقد تقدم في كتاب النكاح. (وقال ابن مسعود) رضي الله عنه: (الشكر نصف الإيمان) وقد روي من حديث أنس مرفوعا: الإيمان نصفان، نصف في الصبر، ونصف في الشكر. رواه الديلمي والبيهقي ، وقد تقدم قريبا .

ومن الأخبار الواردة في الشكر أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "إنى أحبك فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، وفي الترمذي من بعض دعائه المشهور:

[ ص: 49 ] "رب اجعلني لك شكارا، لك ذكارا، لك رهابا، لك مطواعا، لك محبابا، إليك أواها منيبا"، وفي حديث عمر: "الحمد على النعمة أمان لزوالها"، وفي حديث ابن عمرو: "الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده".




الخدمات العلمية