الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولسوء الخاتمة ، أسباب تتقدم على الموت ، مثل البدعة ، والنفاق والكبر ، وجملة من الصفات المذمومة ولذلك اشتد خوف الصحابة من النفاق حتى قال الحسن لو أعلم أني بريء من النفاق كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس وما عنوا به النفاق الذي هو ضد أصل الإيمان بل المراد به ما يجتمع مع أصل الإيمان فيكون مسلما منافقا ، وله علامات كثيرة ، قال صلى الله عليه وسلم : أربع من كن فيه : فهو منافق خالص ، وإن صلى وصام ، وزعم أنه مسلم ، وإن كانت فيه خصلة منهم ففيه شعبة من النفاق حتى يدعها : من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ، وإذا خاصم فجر .

وفي لفظ آخر : وإذا عاهد غدر .

وقد فسر الصحابة والتابعون النفاق بتفاسير لا يخلو عن شيء منه إلا صديق ، إذ قال الحسن إن من النفاق اختلاف السر والعلانية واختلاف اللسان والقلب واختلاف المدخل والمخرج ومن الذي يخلو عن هذه المعاني .

بل صارت هذه الأمور مألوفة بين الناس معتادة ونسي كونها منكرا بالكلية بل جرى ذلك على قرب عهد بزمان النبوة فكيف الظن بزماننا حتى قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير بها منافقا إني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر وقال بعضهم : علامة النفاق أن تكره من الناس ما تأتي مثله وأن تحب على شيء من الجور وأن تبغض على شيء من الحق .

وقيل : من النفاق أنه إذا مدح بشيء ليس فيه أعجبه ذلك .

وقال رجل لابن عمر رحمه الله إنا ندخل على هؤلاء الأمراء فنصدقهم فيما يقولون فإذا خرجنا تكلمنا فيهم فقال كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وروي أنه سمع رجلا يذم الحجاج ويقع فيه فقال أرأيت لو كان الحجاج حاضرا أكنت تتكلم بما تكلمت به ؟ قال : لا .

قال كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشد من ذلك ما روي أن نفرا قعدوا على باب حذيفة ينتظرونه فكانوا يتكلمون في شيء من شأنه فلما خرج عليهم سكتوا حياء منه ، فقال : تكلموا فيما كنتم تقولون فسكتوا فقال كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا حذيفة كان قد خص بعلم المنافقين وأسباب النفاق وكان يقول : إنه يأتي على القلب ساعة يمتلئ بالإيمان حتى لا يكون للنفاق فيه مغرز إبرة ، ويأتي عليه ساعة يمتلئ بالنفاق حتى لا يكون للإيمان فيه مغرز إبرة .

التالي السابق


(ولسوء الخاتمة والنفاق، أسباب تتقدم على الموت، مثل البدعة، والكبر، وجملة من الصفات المذمومة) ، وقد روي في معنى حديث: من غش أمتي فعليه لعنة الله، قيل: وما غش أمتك؟ قال: أن يبتدع لهم بدعة فيتبع عليها فإذا فعل ذلك فقد غشهم. (ولذلك اشتد خوف الصحابة) رضوان الله عليهم (من النفاق) كما هو معروف من سيرهم وأحوالهم، (حتى قال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: (لو أعلم أني بريء من النفاق كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) هذا مع فضله، وزهده، وورعه، نقله صاحب القوت .

(وما عنوا به النفاق الذي هو ضد أصل الإيمان) كما يتبادر إلى الأذهان (بل المراد به ما يجتمع مع أصل الإيمان فيكون مسلما منافقا، وله علامات كثيرة، قال صلى الله عليه وسلم: أربع) خصال (من كن فيه) أي: وجدن (فهو منافق خالص، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم، وإن كانت فيه خصلة منهن ففيه شعبة من النفاق حتى يدعها) أي: يتركها (من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر. وفي لفظ آخر: وإذا عاهد غدر) . ولفظ القوت: ومن المخاوف خوف النفاق، فقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يخافون النفاق، أو أن يكون فيهم شعبة منه أو دقيقة من حيث لا يعلمون، هذا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه فهو منافق.

وفي حديث عبد الله بن عمر: وأربع، ورويناها خمسا من ثلاثة أحاديث جمعناها، فكانت: خمس خصال من كن فيه فهو منافق خالص، وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم، وفي لفظ آخر: أربع من كن فيه فقد أدمج النفاق من فرقه إلى قدمه، ومن كانت فيه واحدة منهن ففيه شعبة من نفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، قال: فجعل بعضنا ينظر إلى بعض تعجبا إذ لم يكن الرجل كفؤا لها، قال: إني كنت وعدته أن أزوجه ابنتي وأخاف أن ألقى الله بثلث النفاق. وقد كانوا يقولون: الكذب باب من النفاق، ومن عزائم الأخبار وشدائدها خبران وردا بأربعة أخلاق أنها لا توجد في مؤمن، أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم: يجبل المؤمن على كل خلق إلا الخيانة، وبمعناها الكذب مجانب الإيمان، وقد يدخل الكذب في الأفعال والأحوال دخوله في المقال، وليس يعرى من الكذب اليوم إلا الصديقون دون الصادقين .

والخبر الآخر قوله صلى الله عليه وسلم: "خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق". وليس يعرى من البخل على مذهب أهل المعرفة في هذا الوقت إلا بدال، فقد سئل بعضهم عن البخل فقال: هو أن تملك الشيء فتدعي ملكه لتمنع الغير أن يأخذه منك. قال بعض العارفين: البخل من لم يؤثر بالشيء مع الحاجة إليه؛ فوجود بعض هذه الأخلاق الدنية، وهي من صفات النفس، وجبلة الطبع، وآفات العقل، موجب للخوف من النفاق، فإن هذه علامة نقص أو فقد اليقين؛ إذ [ ص: 232 ] العلامات قد توجد والدلائل في الحال قد تشهد ويتأخر حكمها ووقوع حقائقها إلى المآل. اهـ .

والحديث المذكور قد تقدم في قواعد العقائد وقد رواه أحمد والشيخان أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو: أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر. وفي لفظ للشيخين: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر. رواه كذلك الخرائطي في مساوي الأخلاق وابن عساكر من رواية مسروق عن ابن مسعود.

(وقد فسر الصحابة) - رضي الله عنهم - (والتابعون النفاق بتفسير لا يخلو عن شيء منه إلا صديق، إذ قال الحسن البصري) - رحمه الله تعالى - إن من النفاق لفظ القوت، وكان يقول: كانوا يعدون (اختلاف السر والعلانية) واختلاف الظاهر والباطن (واختلاف اللسان والقلب) نفاقا (و) قال مرة كانوا يعدون (اختلاف) القول والعمل (والمدخل والمخرج) نفاقا (ومن الذي يخلو من هذه المعاني بل صارت هذه الأمور مألوفة بين الناس معتادة ونسي كونها منكرا بالكلية بل جرى ذلك على قرب عهد بزمان النبوة) فكيف الظن بزماننا حتى قال حذيفة بن اليمان (- رضي الله عنه - : إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصير بها منافقا) حتى يلقى الله، و (إني لأسمعها من أحدكم) ليتكلم بها (في اليوم) ، ولفظ القوت: في المجلس (الواحد عشر مرات) ولفظ القوت: خمس مرات رواه أحمد عن عبد الله بن نمير، حدثنا رزين الجهني، حدثنا أبو الرقاد قال: خرجت مع مولاي وأنا غلام فدفعت إلى حذيفة ويقول: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصير بها منافقا وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحضن على الخير أو ليسحتنكم الله جميعا بعذاب أو ليؤمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم. وقد رواه أبو نعيم في الحلية من طريقه، وتقدم في قواعد العقائد .

(وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إنكم لتعلمون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكبائر) وفي لفظ: من الموبقات. قال العراقي رواه البخاري من حديث أنس، والبزار من حديث أبي سعيد وأحمد والحاكم من حديث عبادة وصحح إسناده وتقدم في التوبة قلت: وأخرج أبو نعيم في الحلية عن حذيفة قال: المنافقون اليوم شر منهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذ ذاك يسرونه وهم اليوم يعلنون. قال صاحب القوت: وهذا كما قال إعلان المعاصي والجهار أعظم من التستر والتخفي؛ لأنها إذا أسرت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت ضرت العامة ونكأت في الإسلام وأوهنت شأن الدين .

(وقال بعضهم: علامة النفاق أن يكره من الناس ما يأتي مثله) نقله صاحب القوت قال (و) روينا مسندا من النفاق (أن يحب على شيء من الجور وأن يبغض على شيء من الحق) وسئل وهب: من المنافق؟ قال: الذي يحب المدح ويكره الذم. وروي مسندا من طريق أهل البيت: من علامة المنافق أن يحب أن يحمد في جميع أموره، (وقيل: من النفاق أنه إذا مدح بشيء ليس فيه أعجبه ذلك) كذا في القوت وعلامات النفاق أكثر من أن تحصى هي سبعون علامة ولا يعرى من النفاق إلا طبقات ثلاث: الصديقون والشهداء والصالحون وهؤلاء الذين ضمهم الله إلى الأنبياء ووصفهم بكمال النعمة وعافاهم من الخبرة بالبلوى ووقاهم آفة الأهوال كمال إيمانهم وصفاء يقينهم وحقيقة معرفتهم دقائق النفاق وخفايا الشرك عن نقصان التوحيد وضعف اليقين وترادف الشهوات وتزايد العادات عن قوة النفس وتظاهر صفاتها، فهذه أوجبت المخاوف على المؤمنين خشية مقت الله تعالى وخوف حبوط الأعمال من حيث لا يشعرون. (وقال رجل لابن عمر) - رضي الله عنهما - (إنا ندخل على هؤلاء الأمراء فنصدقهم بما يقولون) ويعلم الله في قلوبنا خلاف ذلك، وقال: مرة ندخل عليهم فنمدحهم (فإذا خرجنا تكلمنا فيهم فقال) ابن عمر (كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله - صلى الله [ ص: 233 ] عليه وسلم -) كذا نقله صاحب القوت (وروي) عنه من طريق آخر (أنه سمع رجلا يذم الحجاج ويقع فيه) ولفظ القوت: يسب الحجاج ويذمه (فقال) له (أرأيت لو كان الحجاج حاضرا أكنت تتكلم بما تكلمت به؟ قال: لا، قال) ابن عمر: أما هذا فقد (كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كذا في القوت .

وقد تقدم في قواعد العقائد قال العراقي: ولم أجد فيه ذكر الحجاج قلت: ذكر الحجاج فيه في الغيلانيات، قال صاحب القوت: ولعمري لقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يكون بعدي أمراء من دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولن يرد علي الحوض، ولكن من كره وأنكر، (وأشد من ذلك ما روي أن نفرا قعدوا على باب حذيفة) - رضي الله عنه - (ينتظرونه فكانوا يتكلمون في شيء من شأنه فلما خرج عليهم سكتوا حياء منه، فقال: تكلموا فيما كنتم تقولون فسكتوا) وفي القوت: أفيضوا بدل تكلموا (فقال) قد (كنا نعد) مثل (هذا نفاقا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال العراقي: لم أجد له أصلا .

(وهذا حذيفة) - رضي الله عنه - (كان) قد (خص بعلم المنافقين) حتى إن عمر - رضي الله عنه - كان يقول له: هل تعلم في شيئا من النفاق (وكان يقول: إنه تأتي على القلب ساعة يمتلئ بالإيمان حتى لا يكون للنفاق فيه مغرز إبرة، وتأتي عليه ساعة يمتلئ بالنفاق حتى لا يكون للإيمان فيه مغرز إبرة) يعني بهذا عند قوة صفات النفس بالهوى وامتلائها بالشهوة يغيب الإيمان ويحتجب احتجاب الشمس تحت السحاب فيرتفع حكمه عن إظهار أحكامه الموجبة لمقتضاه من الورع أو الزهد، أو المراقبة، أو المخافة كما يرتفع حكم شعاع الشمس إذا حجبت بكثف السحاب على الأرض ولم يقع منها ضوء، وعلى هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يزني الزاني وهو مؤمن. الحديث، وفي الخبر الآخر مثل الإيمان كالقميص يلبسه أحيانا ويخلعه أحيانا وقد يكون امتلاء القلب بالنفاق بدلا عن امتلائه بالإيمان في وقت دخول الشك عليه; لأنه يرفع اليقين وعدم اليقين هو مكان لوجود النفاق أو في أوقات إنكار القدرة من قدرة الله تعالى وحين تكذيبه فإنه من آياته فوجود ذلك النقص للإيمان وينقص الإيمان دخول النفاق فإن بغت الموت في هذه الساعة التي يمتلئ القلب فيها نفاقا حتى لا يكون للإيمان فيه مغرز إبرة أليس يكون ذلك خاتمته بالنفاق، وكذلك إن فجأه الأمر بغتة عند إحدى الخصال الخمس المذكورة في حديث عبد الله بن عمرو، أليس ذلك يصير في آخر عمره من سوء الخاتمة؟




الخدمات العلمية