الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذا النعم الدنيوية مشوبة قد امتزج دواؤها بدائها ، ومرجوها بمخوفها ، ونفعها بضرها ، فمن وثق ببصيرته وكمال معرفته فله أن يقرب منها متقيا داءها ، ومستخرجا دواءها ، ومن لا يثق بها فالبعد البعد ، والفرار الفرار عن مظان الأخطار ، فلا تعدل بالسلامة شيئا في حق هؤلاء وهم الخلق كلهم إلا من عصمه الله تعالى وهداه لطريقه .

فإن قلت : فما معنى النعم التوفيقية الراجحة إلى الهداية والرشد والتأييد والتسديد ؟ فاعلم أن التوفيق لا يستغني عنه أحد ، وهو عبارة عن التأليف والتلفيق بين إرادة العبد وبين قضاء الله وقدره وهذا يشمل الخير والشر وما هو سعادة ، وما هو شقاوة ولكن جرت العادة بتخصيص اسم التوفيق بما يوافق السعادة من جملة قضاء الله تعالى وقدره ، كما أن الإلحاد عبارة عن الميل فخصص بمن مال إلى الباطل عن الحق وكذا الارتداد ولا خفاء بالحاجة إلى التوفيق ولذلك قيل :


إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده

فأما الهداية فلا سبيل لأحد إلى طلب السعادة إلا بها : لأن داعية الإنسان قد تكون مائلة إلى ما فيه صلاح آخرته .

ولكن إذا لم يعلم ما فيه صلاح آخرته حتى يظن الفساد صلاحا فمن أين ينفعه مجرد الإرادة فلا فائدة في الإرادة ، والقدرة والأسباب إلا بعد الهداية ولذلك قال تعالى : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وقال تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء ، وقال صلى الله عليه وسلم : ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى ، أي : بهدايته ، فقيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا .

التالي السابق


(فإذا النعم الدنيوية مشوبة قد امتزج داؤها بدوائها، ومرجوها بمخوفها، ونفعها بضرها، فمن وثق ببصيرته وكمال معرفته فله أن يقرب منها متقيا داءها، ومستخرجا دواءها، ومن لا يثق بها فالبعد البعد، والفرار الفرار عن مظان الأخطار، فلا تعدل بالسلامة شيئا في حق هؤلاء وهم الخلق كلهم إلا من عصمه الله تعالى وهداه الطريقة، فإن قلت: فما معنى النعم التوفيقية) التي لا تتحصل الفضائل الخارجية إلا بها (وهي الراجعة إلى) أربعة أشياء (الهداية والرشد والتأييد والتسديد؟ فاعلم أن التوفيق لا يستغني عنه أحد، وهو عبارة عن التأليف والتلفيق بين إرادة العبد) وفعله (وبين قضاء الله وقدره) والاتفاق ومطاوعة التوفيق يقال وفقه فاتفق (و) لكن (هذا يشمل الخير والشر) جميعا (وما هو سعادة، وما هو شقاوة) فيقال اتفاق جيد واتفاق رديء، فالتوفيق وإن كان في الأصل موضوعا على وجه يصلح استعماله فيهما جميعا (ولكن جرت العادة بتخصيص اسم التوفيق بما يوافق السعادة) فقط (من جملة قضاء الله وقدره، كما أن الإلحاد) في الأصل (عبارة عن الجميل) ومنه اللحد في القبر (فخصص بمن يميل إلى الباطل عن الحق وكذا الارتداد) وأشباههما (ولا خفاء بالحاجة إلى التوفيق) كما قال الحكيم الذي لا يستغني الإنسان عنه في كل حال التوفيق، (ولذلك قيل:)

(إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده)

(وأما الهداية فلا سبب لأحد إلى طلب السعادة) ولا إلى شيء من الفضائل (إلا بها) أي: بهداية الله ورحمته، ويجب على كل إنسان أن يعلم ذلك (لأن داعية الإنسان قد تكون مائلة إلى ما فيه صلاح آخرته، ولكن إذا لم يعلم ما فيه صلاح آخرته حتى يظن الفساد صلاحا فمن أين ينفعه مجرد الإرادة، فلا فائدة في الإرادة والقدرة والأسباب إلا بعد الهداية) فهي مبدأ الخيرات ومنتهاها، كما (قال) الله (تعالى: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وقال تعالى) مخاطبا للناس: ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء ، وقال صلى الله عليه وسلم: ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى، أي: بهدايته، فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا) تنبيها على أنه لو توهمت رحمته مرتفعة ابتداء وانتهاء ما كان لنا سبيل إلى ذلك. قال العراقي : متفق عليه من حديث أبي هريرة: لن يدخل أحدكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة. وفي رواية لمسلم: ما من أحد يدخله عمله الجنة ، [ ص: 97 ] الحديث. واتفقنا عليه من حديث عائشة ، وانفرد به مسلم من حديث جابر، وقد تقدم، انتهى .

قلت: وتمام حديث أبي هريرة عند الشيخين: فسددوا وقاربوا ولا يتمن أحدكم الموت، إما محسن فلعله يزداد خيرا، وإما مسيء فلعله يستعتب، وفي لفظ لهما: لن ينجي أحدا منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته، ولكن سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا. وروى ابن قانع والطبراني والضياء من حديث شريك بن طارق: لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل. وفي لفظ للطبراني: ما من أحد يدخل الجنة بعمل، وقال إلا برحمة منه. وروى أحمد وعبد بن حميد من حديث أبي سعيد: لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله.




الخدمات العلمية