الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : فكيف الجمع بين التوحيد والشرع ومعنى التوحيد أن لا فاعل إلا الله تعالى ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد ، فإن كان العبد فاعلا فكيف يكون الله تعالى فاعلا ، وإن كان الله تعالى فاعلا فكيف يكون العبد فاعلا ، ومفعول بين فاعلين غير مفهوم فأقول : نعم ذلك غير مفهوم إذا كان للفاعل معنى واحد وإن كان له معنيان ، ويكون الاسم مجملا مرددا بينهما لم يتناقض كما يقال : قتل الأمير فلانا ، ويقال : قتله الجلاد ولكن الأمير قاتل بمعنى والجلاد قاتل بمعنى آخر فكذلك العبد فاعل بمعنى والله عز وجل فاعل بمعنى آخر فمعنى كون الله تعالى فاعلا أنه المخترع الموجد ومعنى كون العبد فاعلا أنه المحل الذي خلق فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم فارتبطت القدرة بالإرادة والحركة بالقدرة ارتباط الشرط بالمشروط ، وارتبط بقدرة الله ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المخترع بالمخترع ، وكل ما له ارتباط بقدرة فإن محل القدرة يسمى فاعلا له كيفما كان الارتباط كما يسمى الجلاد قاتلا والأمير قاتلا ؛ لأن القتل ارتبط بقدرتهما ولكن على وجهين مختلفين فلذلك ، سمي فعلا لهما فكذلك ارتباط المقدورات بالقدرتين . ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه فقال الله تعالى في الموت : قل يتوفاكم ملك الموت ثم قال : عز وجل الله يتوفى الأنفس حين موتها وقال تعالى أفرأيتم ما تحرثون أضاف إلينا ثم قال تعالى : أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقال : عز وجل فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ثم قال تعالى فنفخنا فيها من روحنا وكان النافخ جبريل عليه السلام وكما قال تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه قيل في التفسير معناه إذا قرأه عليك جبريل وقال تعالى قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه ، والتعذيب هو عين القتل بل صرح وقال تعالى : فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وقال تعالى . وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وهو جمع بين النفي والإثبات ظاهرا ولكن معناه وما رميت بالمعنى الذي يكون الرب به راميا إذ رميت بالمعنى الذي يكون العبد به راميا إذ هما معنيان مختلفان .

وقال الله تعالى : الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ثم قال : الرحمن علم القرآن وقال: علمه البيان وقال: ثم إن علينا بيانه وقال: أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في وصف ملك الأرحام إنه يدخل الرحم فيأخذ النطفة في يده ثم يصورها جسدا فيقول : يا رب أذكر أم أنثى أسوي أم معوج فيقول الله تعالى ما شاء ويخلق الملك وفي لفظ آخر ويصور : الملك ثم ينفخ فيه الروح بالسعادة أو بالشقاوة .

وقد قال بعض السلف : إن الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجساد وأنه يتنفس بوصفه فيكون كل نفس من أنفاسه روحا يلج في جسم ، ولذلك سمي روحا وما ذكره في مثل هذا الملك وصفته فهو حق شاهده أرباب القلوب ببصائرهم فأما كون الروح عبارة عنه فلا يمكن أن يعلم إلا بالنقل والحكم به دون النقل تخمين مجرد وكذلك ذكر الله تعالى في القرآن من الأدلة والآيات في الأرض والسموات .

التالي السابق


(فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع ومعنى التوحيد أن لا فاعل) حقيقة (إلا الله) ومعنوية نفي الأفعال مطلقا لغير الله تعالى; لأن حقيقة الفاعل هو الذي لا يستعين بغيره من آلة ولا سبب (ومعنى الشرط إثبات الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلا فكيف يكون الله فاعلا، وإن كان الله تعالى فاعلا فكيف يكون العبد فاعلا، ومفعول بين فاعلين غير مفهوم) عند أهل المعرفة إذ ظهور [ ص: 425 ] الفعل من فاعلين شرك (فأقول: نعم ذلك غير مفهوم إذا كان للفاعل معنى واحد وإن كان له معنيان، ويكون الاسم مجملا مرددا بينهما لم يتناقض كما يقال: قتل الأمير فلانا، ويقال: قتله الجلاد ولكن الأمير قاتل بمعنى) هو أمره بذلك (والجلاد قاتل بمعنى آخر) هو مباشرته له (فكذلك العبد فاعل بمعنى آخر فمعنى كون الله تعالى فاعلا أنه المخترع الموجد) لتلك الأفعال .

(ومعنى كون العبد فاعلا أنه المحل الذي خلق فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم) فالفاعل الثاني هو المظهر الذي فعل بيده وأجري الفعل بواسطته هو ثان ومحدث مفعول والأول القديم هو الفاعل الأصل (فارتبطت القدرة بالإرادة والحركة بالقدرة ارتباط الشرط بالمشروط، وارتبط بقدرة الله تعالى ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المخترع بالمخترع، وكل ما له ارتباط بقدرة فإن محل القدرة يسمى فاعلا له كيفما كان الارتباط كما يسمى الجلاد قاتلا والأمير قاتلا; لأن القتل ارتبط بقدرتهما ولكن على وجهين مختلفين، فذلك سمي فعلا لهما فكذلك ارتباط المقدورات بالقدرتين .

ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد) لأنهم وسائط ومحال قدرته ومظاهر حكمته (ونسبها) أي: تلك الأفعال بعينها (مرة أخرى إلى نفسه) لأنها من اختراعه وخلقه وآياته عن قدرته وحكمته وهو الحكيم القادر; لأنه تعالى ذو قدرة وحكمة فأظهر أشياء عن وصف القدرة وأجرى أشياء على معاني الحكمة فلا يسقط المتوكل ما أثبت من حكمته لأجل ما شهد هو من قدرته من قبل أن الله تعالى حكيم فالحكمة صفته، ولا يثبت المتوكل الأشياء حاكمة جاعلة نافعة ضارة فيشرك في توحيده من قبل أن الله قادر والقدرة صفته وأنه حاكم جاعل نافع ضار لا شريك له في أسمائه ولا ظهير له في أحكامه كما قال: إن الحكم إلا لله ولا يشرك في حكمه أحدا، ولقوله تعالى: وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير وكما هو الفاعل لكل شيء وحده; لأنه الأول كذلك هو القائم به المتمم له بعد ظهوره وحده; لأنه هو الآخر .

(فقال تعالى في الموت: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ) فأضاف التوفي إليه باعتبار أنه مظهر لذلك وهو التفصيل (ثم قال - عز وجل -) في التوحيد: ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ) ففي الأول أظهر الأواسط أسبابا وأثبت نفسه فيها وفي الثاني رفعها وأظهر نفسه .

(وقال) تعالى: ( أفرأيتم ما تحرثون ) فذكر الأواسط; لأن الحرث عمل ونحن عبيد عمال ولأنه صنعتنا وحكمها عائد علينا، ولذلك (أضاف إلينا ثم قال تعالى: أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا ) الآيات، فأضاف تلك الأفعال إلى نفسه لأنها آياته عن قدرته وحكمته وهو الحكيم القادر (وقال - عز وجل -) في التفصيل: ( فأرسلنا إليها ) أي: إلى مريم ( روحنا فتمثل لها بشرا سويا ) أي: صورة رجل أجل ما يكون (ثم قال) تعالى في التوحيد: ( فنفخنا فيها من روحنا وكان النافخ جبريل - عليه السلام -) فأضاف إليه النفخ هنا .

(و) كذلك (قال الله تعالى) في التفصيل والأمر: فاقتلوا المشركين وفي مثله من ذكر الواسطة لأجل الأمر: ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه، والتعذيب هو عين القتل) ففي آية واحدة تفصيل وتوحيد ولكن بطريق التلويح في التوحيد (بل صرح) في التوحيد (وقال: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم .

و) كذلك (قال) تعالى في نفي الأولية والآخرية من فعل الخلق للتوحيد: ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وهو جمع بين النفي والإثبات ظاهرا) فالنفي قوله: "وما رميت" وإثبات المكان للتفصيل قوله: "إذ رميت" (ولكن معناه) باطنا (إذ رميت بالمعنى الذي يكون به العبد راميا فما رميت بالمعنى الذي يكون به الرب راميا إذ هما [ ص: 426 ] معنيان مختلفان، وقال الله تعالى: الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ثم قال: الرحمن علم القرآن ) .

ومثله في إثبات الأسباب ورفع حقيقتهما قوله تعالى: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فأثبت رسمه مكانا للعلم ثم رفع حكمه إظهارا للعالم فقال: فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (وقال) تعالى: ( علمه البيان ) وهو شرح المجمل والمبهم من الكلام (وقال) تعالى: ( إن علينا بيانه ) أي: كشف مشكله ومبهمه (وقال) تعالى: ( أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ) أضاف الإمناء إلينا; لأنه عمل من الأعمال وهو صفتنا وحكمه عائد علينا، كما أضاف إلينا الحرث في التي بعدها لذلك، وأضاف الخلق إليه لأنها آياته عن قدرته وحكمته وهو الحكيم القادر، كما أضاف الزرع إليه في التي بعدها لذلك .

(ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في جعل الله تعالى بحكمته وعزته عن مباشرة الأشياء بنفسه للخلقة والحياة واسطة وذلك (في وصف ملك الأرحام أنه يدخل الرحم فيأخذ النطفة في يده ثم يصورها جسدا فيقول: يا رب أذكر أم أنثى أسوي) أي: معتدل (أم معوج فيقول الله تعالى ما شاء ويخلق الملك) وفي لفظ: ويطبع الملك (وفي لفظ آخر: يصور الملك ثم ينفخ فيها الروح بالسعادة أو بالشقاوة) .

قال العراقي: رواه البزار وابن عدي من حديث عائشة عن الله تبارك وتعالى: حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكا فيدخل الرحم فيقول: يا رب ماذا؟ الحديث، وفي آخره: فما من شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم. في سنده جهالة، وقال ابن عدي: إنه منكر وأصله متفق عليه من حديث ابن مسعود. انتهى .

قلت: وتمام الحديث عند البزار بعد قوله: ماذا؟ فيقول: غلام أو جارية أو ما شاء الله أن يخلق في الرحم، فيقول: يا رب شقي أم سعيد؟ فيقول: شقي أو سعيد، فيقول: يا رب ما أجله؟ ما خلائقه؟ فما من شيء إلا ويخلق معه في الرحم. إلا أن الهيثمي قال: إن رجال إسناد البزار ثقات، وحديث ابن مسعود الذي أشار إليه العراقي في المتفق عليه لفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا ويؤمر بأربع كلمات، ويقال: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح. الحديث، وكذلك رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، ورواه ابن جميع في مجمعه والحلبي في فوائده بلفظ: ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح فيؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.

(وقد قال بعض السلف: إن الملك الأعظم الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجساد و) قيل (أنه يتنفس بوصفه فيكون كل نفس من أنفاسه روحا يلج في الجسم، ولذلك سمي روحا) هكذا نقل القولين صاحب القوت بقوله: ويقال: وقيل: (وما ذكره) أي: بعض السلف (في مثل هذا الملك وصفته فهو حق شاهده أرباب القلوب ببصائرهم فأما كون الروح عبارة عنه فلا يمكن أن يعلم إلا بالنقل) الصريح (والحكم به دون النقل تخمين مجرد) .

ثم قال صاحب القوت: فصار العبد يظهر بين أربعة وهي حدود الحكمة ظاهران وهما الأبواب وباطنان وهما ملك الأرحام وملك الأرواح، ثم إن الله تعالى قال في وصف نفسه: "البارئ المصور" كما قال: "الخالق" ومفهوم الحديث السابق أن المصور هو الملك، فالحديث يدل على التفصيل ووصفه تعالى نفسه يدل على التوحيد .

(وكذلك ذكر الله تعالى في القرآن من الأدلة والآيات في الأرض والسماوات) في عدة آيات وهو مقام التفصيل .




الخدمات العلمية