الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان آداب المتوكلين إذا سرق متاعهم .

للمتوكل آداب في متاع بيته إذا خرج عنه الأول أن يغلق الباب ولا يستقصي في أسباب الحفظ كالتماسك من الجيران الحفظ مع الغلق ، وكجمعه أغلاقا كثيرة فقد كان مالك بن دينار لا يغلق بابه ولكن يشده بشريط ويقول : لولا الكلاب ما شددته أيضا الثاني : أن لا يترك في البيت متاعا يحرض عليه السراق ، فيكون هو سبب معصيتهم أو إمساكه ، يكون سبب هيجان رغبتهم ، ولذلك لما أهدى المغيرة إلى مالك بن دينار ركوة قال خذها لا حاجة لي إليها ، قال : لم ؟ قال : يوسوس إلي العدو أن اللص يأخذها فكأنه احترز من أن يعصي السارق ، ومن شغل قلبه بوسواس الشيطان بسرقتها ، ولذلك قال أبو سليمان هذا من ضعف قلوب الصوفية ، هذا قد زهد في الدنيا ، فما عليه من أخذها الثالث أن ما يضطر إلى تركه في البيت ينبغي أن ينوي عند خروجه الرضا بما يقضي الله فيه من تسليط سارق عليه ويقول : ما يأخذه السارق فهو منه في حل ، أو في سبيل الله تعالى وإن ، كان فقيرا فهو عليه صدقة وإن لم يشترط الفقر فهو أولى فيكون له نيتان لو أخذه غني أو فقير : إحداهما أن يكون ماله مانعا من المعصية ، فإنه ربما يستغني به فيتوانى عن السرقة بعده ، وقد زال عصيانه بأكل الحرام لما أن جعله في حل والثانية . : أن لا يظلم مسلما آخر ، فيكون ماله فداء لمال مسلم آخر ، ومهما ينوي حراسة مال غيره بمال نفسه ، أو ينوي دفع المعصية عن السارق ، أو تخفيفها عليه فقد نصح للمسلمين ، وامتثل قوله : صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما ونصر الظالم أن تمنعه من الظلم وعفوه عنه إعدام للظلم ومنع له وليتحقق أن هذه النية لا تضره بوجه من الوجوه ، إذ ليس فيها ما يسلط السارق ويغير القضاء الأزلي ولكن يتحقق بالزهد نيته ، فإن أخذ ماله كان له بكل درهم سبعمائة درهم لأنه نواه وقصده ، وإن لم يؤخذ حصل له الأجر أيضا ، كما روي عن رسول الله : صلى الله عليه وسلم : فيمن ترك العزل فأقر النطفة قرارها أن له أجر غلام ولد له من ذلك الجماع ، وعاش فقتل في سبيل الله تعالى ، وإن لم يولد له لأنه ليس أمر الولد إلا الوقاع ، فأما الخلق والحياة والرزق والبقاء فليس إليه ، فلو خلق لكان ثوابه على فعله ، وفعله لم ينعدم فكذلك أمر السرقة .

التالي السابق


* (بيان آداب المتوكلين إذا سرق متاعهم) *

اعلم أنه (للمتوكل آداب) سواء كان منفردا أو معيلا، وتلك الآداب ينبغي مراعاتها وهي (في متاع بيته إذا خرج عنه) لحاجته (الأول أن يغلق الباب) فهذا جائز له، (ولا) يجوز أن (يستقصي في أسباب الحفظ كالتماسه من الجيران الحفظ مع الغلق، وكجمعه أغلاقا كثيرة) فالاستقصاء في هذا بنحو ذلك مما يناقض التوكل؛ لأنه يدل على عدم الثقة بالله، وقيل: يبطل كماله لا أصله (فقد كان) أبو يحيى (مالك بن دينار) البصري -رحمه الله تعالى- (لا يغلق بابه ولكن يشده بشريط ويقول: لولا الكلاب ما شددته أيضا) كذا في القوت، وأخرج أبو نعيم في [ ص: 511 ] الحلية من طريق يوسف بن عطية الصفار، عن مالك بن دينار، قال: من دخل بيتي، فأخذ شيئا فهو له حلال، أما أنا فلا أحتاج إلى قفل ولا إلى مفتاح .

(الثاني: أن لا يترك في البيت متاعا يحرص عليه السراق، فيكون هو سبب معصيتهم، وإمساكه يكون سبب هيجان رغبتهم، ولذلك لما أهدى المغيرة إلى مالك بن دينار ركوة) ، فأخذها منه، ثم بعد أيام (قال) له: (خذها لا حاجة لي إليها، قال: لم؟ قال: يوسوس إلى العدو أن اللص أخذها) قد تقدم عند أبي نعيم في الحلية، أخرجه من طريق الحارث بن نبهان الجرمي قال: قدمت من مكة، فأهديت إلى مالك بن دينار ركوة، قال: فكانت عنده قال: فجئت يوما، فجلست في مجلسه، فقال: يا حارث بن نبهان، تعال فخذ ركوتك، فقد شغلت على قلبي... إلخ، والمصنف تبع صاحب القوت، فإنه هكذا ذكره عن المغيرة، ولعلها قصتان، (فكأنه احترز من أن يعصي السارق، ومن شغل قلبه بوسواس الشيطان بسرقتها، ولذلك قال أبو سليمان) الداراني -رحمه الله تعالى- لتلميذه أحمد بن أبي الحواري حين سأله عن هذه القصة: (هذا من ضعف قلوب الصوفية، هذا قد زهد في الدنيا، فما عليه من أخذها) .

قال صاحب القوت: وهذا كما قال أبو سليمان؛ لأن الزهد إذا حق دخل الرضا والتوكل فيه، ولقول مالك أيضا وجه، كأنه كره أن يعصي الله به، فيكون سببا لمعصية الله، ولكن قول أبي سليمان أعلى لأجل مقام التوكل والرضا .

(الثالث أن ما يضطر إلى تركه في البيت ينبغي أن ينوي عند خروجه) منه (الرضا بما يقضي الله فيه من تسليط سارق عليه) ، فإن الرضا حال المتوكل (ويقول: ) اللهم إن جميع (ما) في منزلي إن سلطت عليه من (يأخذه السارق فهو منه في حل، أو هو) صدقة (في سبيل الله تعالى، فإن كان) الآخذ (فقيرا فهو عليه صدقة) مني .

وفي القوت: إن كان الآخذ فقيرا حمله على السرقة الحاجة أمضى صدقته عليه، وإن كان غير ذلك صرفها إلى فقير، وهو مأجور على الصدقة وعلى السارق والبغي إذا حملهما على ذلك الحاجة، (وإن لم يشترط الفقر فهو أولى) ، ولفظ القوت: قد كان بعض السلف إذا أخذ له الشيء يشترط، فيقول: إن كان فقيرا فهو صدقة عليه، وإن كان محتاجا فهو منه في حل. انتهى .

ووجه أولوية عدم الاشتراط؛ لأن لله تعالى حكما حقيقية في الغيب، وألطافا، ومصالح، وحسن توفيق لأهل ولايته بحيث لا يعلمون، ومن حيث لا يحتسبون، كما يستخرج لهم رزقهم من الحرام والحلال، وكما يشهدهم الحق والعدل من الباطل والمحال، وكما يعلمهم الفهوم، ويظهر لهم العلوم من الجمال بحسن عنايته بهم، وفضل أثر قولهم، (فتكون له نيتان لو أخذه غني أو فقير: إحداهما أن يكون ماله مانعا له من المعصية، فإنه ربما يستغني به فيتوانى عن السرقة بعده، وقد زال عصيانه بأكل الحرام لما أن جعله في حل .

الثانية: أن لا يظلم مسلما آخر، فيكون ماله فداء لمال مسلم آخر، ومهما نوى حراسة مال غيره بمال نفسه، أو نوى دفع المعصية عن السارق، أو تخفيفها عليه فقد نصح للمسلمين، وامتثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما) قيل: يا رسول الله، أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن المعاصي، فإن ذلك نصره" رواه أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، والترمذي، وابن حبان من حديث أنس، ورواه ابن حبان أيضا من حديث ابن عمر، وقد تقدم (ونصر الظالم أن تمنعه من الظلم) ، كما هو مفهوم الحديث (وعفوه عنه إعدام للظلم ومنع له) ، فإذا عفا عنه فقد منعه عن الظلم بعفوه؛ لأنه لو رآه منعه من أخذه، أو وهبه له، فيقوم عفوه عنه مقام رؤيته، وهذا يدخل في إشفاق الخائفين من فضل مطالبة الظالمين، (وليتحقق أن هذه النية لا تضره بوجه من الوجوه، إذ ليس فيها ما يسلط السارق ويغير القضاء الأزلي) الذي سبق في الكتاب الأول، (ولكن ليتحقق بالزهد نيته، فإن أخذ ماله كان له بكل درهم) تلف، ولم يعد للتلف وحسن اليقين وتفويض التسليم (سبعمائة درهم) كأنه قد أنفقه في سبيل الله، يحسب له ذلك؛ (لأنه) قد كان (نواه وقصده، وإن لم يؤخذ حصل له الأجر أيضا، كما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيمن ترك العزل فأقر النطفة قرارها) توكلا على ممكنها (أن له [ ص: 512 ] أجر غلام ولد له في ذلك الجماع، وعاش فقتل في سبيل الله، وإن لم يولد له) فقال: أنت تخلقه، أنت ترزقه إليك محياه ومماته، أقرها قرارها، ولك ذلك، هكذا نقله صاحب القوت .

وقال العراقي: لم أجد له أصلا (لأنه ليس إليه في أمر الولد إلا الوقاع، فأما الخلق والرزق والبقاء فليس إليه، فلو خلق لكان ثوابه على فعله، وفعله لم ينعدم فكذلك أمر السرقة) .




الخدمات العلمية