الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
(الشطر الثاني من الكتاب) في أحوال التوكل وأعماله .

وفيه بيان حال التوكل وبيان ما قاله الشيوخ في حد التوكل وبيان التوكل في الكسب للمنفرد والمعيل وبيان التوكل بقدر الادخار وبيان التوكل في دفع المضار وبيان التوكل في إزالة الضرر بالتداوي وغيره والله الموفق برحمته .

بيان حال التوكل .

قد ذكرنا أن مقام التوكل ينتظم من علم وحال وعمل وذكرنا العلم .

فأما الحال فالتوكل بالتحقيق عبارة عنه وإنما العلم أصله والعمل ثمرته وقد أكثر الخائضون في بيان حد التوكل واختلفت عباراتهم وتكلم كل واحد عن مقام نفسه وأخبر عن حده كما جرت عادة أهل التصوف به ولا فائدة في النقل والإكثار فلنكشف الغطاء عنه ونقول : التوكل مشتق من الوكالة يقال : وكل أمره إلى فلان أي : فوضه إليه واعتمد عليه فيه ويسمى الموكول إليه وكيلا ويسمى المفوض إليه متكلا عليه ومتوكلا عليه مهما اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتهمه فيه بتقصير ولم يعتقد فيه عجزا وقصورا فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده .

ولنضرب للوكيل في الخصومة مثلا فنقول : من ادعى عليه دعوى باطلة بتلبيس فوكل للخصومة من يكشف ذلك التلبيس لم يكن متوكلا عليه ولا واثقا به ولا مطمئن النفس بتوكيله إلا إذا اعتقد فيه أربعة أمور : منتهى الهداية ، ومنتهى القوة ، ومنتهى الفصاحة ، ومنتهى الشفقة أما الهداية فليعرف بها مواقع التلبيس حتى لا يخفى عليه من غوامض الحيل شيء أصلا وأما القدرة والقوة فليستجرئ على التصريح بالحق فلا يداهن ولا يخاف ولا يستحي ولا يجبن فإنه ربما يطلع على وجه تلبيس خصمه فيمنعه الخوف أو الجبن أو الحياء أو صارف آخر من الصوارف المضعفة للقلب عن التصريح به وأما الفصاحة فهي أيضا من القدرة إلا أنها قدرة في اللسان على الإفصاح عن كل ما استجرأ القلب عليه وأشار إليه فلا كل عالم بمواقع التلبيس قادر بذلاقة لسانه على حل عقدة التلبيس .

التالي السابق


(الشطر الثاني من الكتاب)

(في أحوال التوكل وأعماله وفيه بيان ما قاله الشيوخ) المراد بهم السادة الصوفية في (حد التوكل واختلافهم) فيه، (وبيان التوكل في الكسب للمنفرد بنفسه والمعيل) أي: المتزوج صاحب العيال (وبيان التوكل بترك الادخار) للقوت (وبيان التوكل في دفع المضار) عن نفسه (وبيان التوكل في إزالة الضرر بالتداوي وغيره) أورده في ستة فصول:

(الفصل الأول: في بيان حال التوكل)

وفيه أيضا ذكر الأسباب المانعة منه بعد العلم والمعرفة: اعلم أنا قد ذكرنا أن مقام التوكل كغيره من مقامات اليقين ينتظم من علم وحال وعمل، وذكرنا العلم في الفصل الذي قبله وذكرنا أنه ينبني عليه التوكل والتسليم، فإذا ثبت في النفس ثبوتا اعتقاديا أو كشفيا أو ذوقيا أو عرفانيا نتج عنه الحال فشرع في ذكر الحال وقال: (فأما الحال فالتوكل بالتحقيق عبارة عنه) وهو وسط بين طرفي العلم والعمل (وإنما العلم أصله) وأساسه (والعمل ثمرته) ونتيجته (وقد أكثر الخائضون في بيان حد التوكل واختلفت عباراتهم) فيه (وتكلم كل واحد عن مقام نفسه) الذي أقيم فيه (وأخبر عن حده) ورسمه (كما جرت عادة أهل التصوف به) .

وقد يكون ذلك إخبارا عن مقام نفسه بل عن مقام السائل، فهذا سبب اختلاف عباراتهم (ولا فائدة من النقل والإكثار فلنكشف الغطاء عنه ونقول: التوكل مشتق من) لفظ (الوكالة) بفتح الواو والكسر لغة فيه (يقال: وكل أمره إلى فلان) من باب وعد وكلا بالفتح ووكولا بالضم (أي: فوضه إليه واعتمد عليه فيه) واكتفى به، (ويسمى الموكل إليه وكيلا) فهو فعيل بمعنى مفعول وقد يكون بمعنى فاعل إذا كان بمعنى الحافظ ومنه قوله تعالى: ونعم الوكيل وجمع الوكيل وكلاء (ويسمى المفوض إليه متكلا عليه ومتوكلا عليه) كلاهما بمعنى إلا أن الاتكال من باب الافتعال والاسم منه التكلان بالضم، والتوكل من باب التفعل .

(مهما اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتهمه فيه بتقصيره ولم يعتقد فيه عجزا ولا قصورا) فهذه المعاني لازمة للمفوض إليه (فالتوكل) حينئذ (عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده) ووثوقه به (ولنضرب للوكيل في الخصومة مثلا فنقول: من ادعي عليه دعوى باطلة بتلبيس) وزور (فوكل للخصومة) عنه (من يكشف ذلك التلبيس) عنه (لم يكن متوكلا عليه ولا واثق القلب مطمئن النفس بوكيله إلا إذا اعتقد فيه أربعة أمور: منتهى الهداية، ومنتهى القوة، ومنتهى الفصاحة، ومنتهى الشفقة) .

ثم فصل تلك الأمور وقال: (أما الهداية فليعرف بها مواقع التلبيس) ومحال التزوير (حتى لا يخفى عليه من غوامض الحيل شيء) فهذا [ ص: 461 ] يستدعي هداية تامة وبصيرة نافذة في أمور الدعاوى وكلام الخصوم، فمن لم يكن كذلك يغلبه الخصم فيكون سببا لتلاف حق الموكل .

(وأما القوة والقدرة فليتجرأ) أي: لأجل أن يكون جريئا (على التصريح بالحق) غير متعتع (فلا يداهن) مداهنة (ولا يخاف) في حركاته (ولا يستحي) من التكلم بالحق (ولا يجبن) عن الخصم (فإنه ربما يطلع على وجه) من وجوه (تلبيس خصمه فيمنعه الخوف أو الجبن أو الحياء أو صارف آخر من الصوارف المضعفة للقلب عن التصريح به) فمن لم يكن كذلك يغلبه الخصم أيضا .

(وأما الفصاحة فهي أيضا من القدرة إلا أنها قدرة في اللسان) ولو كان ضعيف القلب أو البدن (على الإفصاح عن كل ما استجرئ القلب عليه وأشار إليه فلا كل عالم بمواقع التلبيس) من خصمه (قادر بذلاقة لسانه) أي: طلاقته (على حل عقد التلبيس) فمن كان كليل اللسان غير مفصح عن وجه البيان ربما يغلبه خصمه .

(وأما منتهى الشفقة فيكون باعثا له على بذل كل ما يقدر عليه من المجهود في حقه) لا يقصر بوجه من الوجوه (فإن قدرته لا تغني دون العناية به إذا كان لا يهمه أمره) أي: لا يشغله (ولا يبالي به ظفر بخصمه أو لم يظفر هلك به حقه أو لم يهلك) فالاعتناء بالأمر لا بد من مراعاته .

(فإن كان شاكا في هذه الأربعة) بمجموعها (أو في كل واحدة منها أو جوز أن يكون خصمه في هذه الأربعة أكمل منه لم تطمئن نفسه إلى وكيله) ولم يثق به (بل بقي مزعج القلب) قلقه (مستغرق الهم بالحيلة والتدبير ليدفع ما يحذره) أي: يخافه (من قصور وكيله وسطوة خصمه، ويكون تفاوت درجة أحواله في شدة الثقة والطمأنينة بحسب تفاوت قوة اعتقاده لهذه الخصال فيه، والاعتقادات والظنون في القوة والضعف تتفاوت تفاوتا لا ينحصر فلا جرم تتفاوت أحوال المتوكلين) على الله تعالى (في قوة الطمأنينة والثقة تفاوتا لا ينحصر إلى أن ينتهي إلى) مرتبة (اليقين الذي لا ضعف فيه) أصلا (كما لو كان الوكيل والد الموكل وهو الذي يسعى لجمع الحلال والحرام لأجله) ويشقى ويتعب ليكمله (فإنه يحصل له يقين بمنتهى الشفقة والعناية فتصير خصلة واحدة من الخصال الأربعة قطعيا) ومجزوما به .

(وكذلك سائر الخصال يتصور أن يحصل القطع به وذلك بطول الممارسة والتجربة وتواتر الأخبار) والشهرة المنقولة على ألسنة الناس (بأنه أفصح الناس لسانا وأقواهم بيانا وأقدرهم على نصرة الحق بل على تصوير الحق بالباطل) أي: على صورته (أو الباطل بالحق) أي: على صورته وفيه ورد: إن من البيان لسحرا .

(فإذا عرفت التوكل في هذا المثال فقس عليه التوكل على الله تعالى فإن ثبت في نفسك بكشف) من الله تعالى بأن يلهم في روعه (أو باعتقاد جازم أن لا فاعل) في الحقيقة (إلا الله كما سبق) في التوحيد (واعتقدت مع ذلك تمام العلم والقدرة على كفاية العباد) بأسرهم (ثم تمام العطف والعناية والرحمة) الموسعة (بجملة العباد والآحاد اتكل لا محالة قلبك عليه وحده ولم يلتفت إلى غيره بوجه) من الوجوه (ولا إلى نفسه وحوله وقوته فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله كما سبق في التوحيد عند ذكر الحركة والقوة، فإن الحول عبارة عن الحركة) والتغير، يقال: حال الشيء حولا إذا تغير عن أصله (والقوة عبارة عن القدرة) في أحد الأصول الثلاثة: نفسه وبدنه وقنيته وقد جاء تفسيره في حديث مرفوع لا حول عن [ ص: 461 ] يستدعي هداية تامة وبصيرة نافذة في أمور الدعاوى وكلام الخصوم، فمن لم يكن كذلك يغلبه الخصم، فيكون سببا لتلاف حق الموكل، (وأما القوة والقدرة فليتجرأ) أي: لأجل أن يكون جريئا (على التصريح بالحق) غير متعتع، (فلا يداهن) مداهنة (ولا يخاف) في حركاته، (ولا يستحيي) من التكلم بالحق (ولا يجبن) عن الخصم (فإنه ربما يطلع على وجه) من وجوه (تلبيس خصمه فيمنعه الخوف، أو الجبن أو الحياء، أو صارف آخر من الصوارف المضعفة للقلب عن التصريح به) ، فمن لم يكن كذلك يغلبه الخصم أيضا، (وأما الفصاحة فهي أيضا من القدرة إلا أنها قدرة في اللسان) ولو كان ضعيف القلب أو البدن (على الإفصاح عن كل ما استجرئ القلب عليه، وأشار إليه فلا كل عالم بمواقع التلبيس) من خصمه، (قادر بذلاقة لسانه) أي: طلاقته (على عقد التلبيس) فمن كان كليل اللسان غير مفصح عن وجه البيان، ربما يغلبه خصمه .




الخدمات العلمية