الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الذي له ذكر بالعبادة والعلم ، فإذا قنع في اليوم والليلة بالطعام مرة واحدة كيف كان وإن لم يكن من اللذائذ وثوب خشن يليق بأهل الدين فهذا يأتيه من حيث يحتسب ولا يحتسب على الدوام بل يأتيه أضعافه ، فتركه التوكل ، واهتمامه بالرزق غاية الضعف والقصور ، فإن اشتهاره بسبب ظاهر يجلب الرزق إليه أقوى من دخول الأمصار في حق الخامل مع الاكتساب ، فالاهتمام بالرزق قبيح بذوي الدين وهو بالعلماء أقبح ؛ لأن شرطهم القناعة والعالم القانع يأتيه رزقه ورزق جماعة كثيرة إن كانوا معه إلا إذا أراد أن لا يأخذ من أيدي الناس ويأكل ، من كسبه ، فذلك له وجه لائق بالعالم العامل الذي سلوكه بظاهر العلم والعمل ولم يكن له سير بالباطن فإن الكسب : يمنع عن السير بالفكر الباطن فاشتغاله بالسلوك مع الأخذ من يد من يتقرب إلى الله تعالى بما يعطيه أولى ؛ لأنه تفرغ لله عز وجل وإعانة للمعطي على نيل الثواب ومن نظر إلى مجاري سنة الله تعالى علم أن الرزق ليس على قدر الأسباب ولذلك سأل بعض الأكاسرة : حكيما عن الأحمق المرزوق ، والعاقل المحروم فقال أراد الصانع أن يدل على نفسه إذ لو رزق كل عاقل ، وحرم كل أحمق لظن أن العقل رزق صاحبه ، فلما رأوا خلافه علموا أن الرازق غيرهم ، ولا ثقة بالأسباب الظاهرة لهم قال الشاعر :


ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذا من جهلهن البهائم

.

التالي السابق


(وأما الذي له ذكر بالعبادة والعلم، فإذا قنع في اليوم والليلة بالطعام) المتيسر (مرة واحدة كيف كان وإن لم يكن من اللذائذ) والأنواع المختلفة (وثوب خشن) من مستعمل ثياب بلده مما (يليق بأهل الدين) ولا يكون من الشطار والجندية (فهذا يأتيه من حيث يحتسب و) من حيث (لا يحتسب على الدوام) من غير انقطاع، (بل يأتيه أضعافه، فتركه التوكل، واهتمامه بالرزق) المضمون (غاية الضعف والقصور، فإن اشتهاره بسبب ظاهر يجلب الرزق إليه أقوى من دخول الأمصار في حق الخامل مع الاكتساب، فالاهتمام بالرزق قبيح بذوي الدين) أولي الصلاح المتين، (وهو بالعلماء) بالله وأحكامه (أقبح؛ لأن شرطهم القناعة) ، وهذا الاهتمام يضادها، وقبيح بذوي الإيمان أن ينزلوا حاجتهم بغير الله تعالى مع عملهم بوحدانيته وانفراده بربوبيته، وهم يسمعون قوله تعالى: أليس الله بكاف عبده ، وذلك من العلماء أقبح، فرفع الهمة على الخلق، وعدم الاهتمام بالرزق هو ميزان العلماء، وسبار الرجال، كما توزن الذوات توزن الأحوال والصفات، وأقيموا الوزن بالقسط فيظهر الصادق بصدقه، والمدعي بحذقه (والعالم القانع يأتيه رزقه) ، بل (ورزق جماعة كثيرة إن كانوا معه) ، وقد ابتلى الله بحكمته العلماء الذين ليسوا بقانعين ولا في وصفهم صادقين بإظهار ما كتموا من الحرص والشره والرغبة وأسروا في أنفسهم من الشهوة، فابتذلوا نفسهم لأبناء الدنيا، مباسطين لهم ملائمين موافقين على مآربهم مدفوعين على أبوابهم، فلقد وسمهم الحق سمة كشف بها عوارهم، أولئك هم الكاذبون على الله، الصادون للعباد عن صحبة أوليائه، فهم حجب أهل التحقيق، وسحب شموس أهل التوفيق، ضربوا طبولهم، ونشروا أعلامهم، ولبسوا دروعهم، فإذا وقعت الحملة ولوا على أعقابهم ناكصين (إلا إذا أراد ذلك) العالم القانع (أن لا يأخذ) رزقه (من أيدي الناس، و) لا (يأكل) إلا (من كسبه، فذلك له وجه لائق بالعالم العامل) الصادق في علمه وعمله (الذي سلوكه بظاهر العلم والعمل) فقط (ولم يكن له سير بالباطن) بالتهذيب والرياضة (فإن الكسب) أي: الاشتغال به (يمنع من السير بالفكر الباطن) إلا أن يكون قويا ممن لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله (فاشتغاله بالسلوك) الباطن حينئذ (مع الأخذ من يد من يتقرب إلى الله تعالى بما يعطيه أولى؛ لأنه تفرغ لله عز وجل) ، وهذا هو المقصود الأعظم من التوكل، بل ومن سائر مقامات الدين .

(و) فيه أيضا (إعانة للمعطي على نيل الثواب وما به تترتب فائدتان، إحداهما أفضل من واحدة، ومن ذلك في الخبر: أوحى الله إلى موسى أني أجعل أرزاق أوليائي على أيدي العاصين؛ ليؤجروا فيهم، فعلم هذا للمتوكلين. ومعرفة هذه الحكمة لمن أوصل إليهم قسمهم من المؤملين مقام للجمع في المعرفة واليقين، فهو مال للمعطي الموصل، وطريق للآخذ المتوكل، كما في الخبر: ما المعطي من سعة بأعظم أجرا من الآخذ إذا كان محتاجا فسبحان مطرق الطرقات، ومسبب الوصلات إلى الآخرة بزلق القربات، ومن نظر) بعين التأمل (إلى مجاري سنة الله تعالى) التي خلت في عباده (علم أن الرزق ليس على قدر الأسباب) فكم من ذكي محروم، وكم من غبي مجدود (ولذلك سأل بعض الأكاسرة) أي: ملوك الفرس (حكيما من حكمائهم عن الأحمق المرزوق، والعاقل المحروم) عن الرزق ما السر فيه (فقال) الحكيم: (أراد الصانع) جل جلاله [ ص: 499 ] (أن يدل) بذلك (على نفسه) أنه الواحد الأحد الرازق؛ (إذ لو رزق كل عاقل، وحرم كل أحمق لظن أن العقل رزق صاحبه، فلما رأوا خلافه علموا أن لا رازق غيره، ولا ثقة بالأسباب الظاهرة لهم) قال الشاعر:


ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذا من جهلهن البهائم

نقله صاحب القوت، إلا أنه قال: علموا أن الصانع هو الرزاق، والحاصل أن من كان ذا معلوم من حرف أو معتاد من الفيء لم يصح توكله، مع سكونه إليه وطمأنينته به؛ لأن ذلك علة في حاله وحيرة لتوكله، وقد يصح التوكل مع ذلك بثلاث معان، أن لا يعوض منه عوضا يقوم مقام السبب الواصل إليه، وأن يقطع همه عنه وعن جميع الخلق، وأن يكون منقطعا إلى الله تعالى، مشغولا بخدمته لا يطأ إلا مروحا لنفسه، والله الموفق .




الخدمات العلمية