الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفيه ، أسرار لا يقف عليها من لم ينته إليها .

فإن قلت وهل : من علامة أعلم بها أني قد وصلت إليها ، فأقول الواصل لا يحتاج إلى طلب العلامات ، ولكن من العلامات على ذلك المقام السابقة عليه أن يسخر لك كلب هو معك في إهابك ، يسمى الغضب فلا يزال يعضك ويعض غيرك فإن سخر لك هذا الكلب بحيث إذا هيج وأشلى ، لم يستشل إلا بإشارتك ، وكان مسخرا لك فربما ترتفع درجتك إلى أن يسخر لك الأسد الذي هو ملك السباع وكلب دارك أولى أن يكون مسخرا لك من كلب البوادي ، وكلب إهابك أولى بأن يتسخر من كلب دارك ، فإذا لم يسخر لك الكلب الباطن فلا تطمع في استسخار الكلب الظاهر .

فإن قلت : فإذا أخذ المتوكل سلاحه حذرا من العدو ، وأغلق بابه حذرا من اللص ، وعقل بعيره حذرا من أن ينطلق فبأي اعتبار يكون متوكلا فأقول : يكون متوكلا بالعلم والحال ، فأما العلم فهو أن يعلم أن اللص إن اندفع لم يندفع بكفايته في إغلاق الباب ، بل لم يندفع إلا بدفع الله تعالى إياه فكم من باب يغلق ولا ينفع وكم من بعير يعقل ويموت ، أو يفلت وكم من آخذ سلاحه يقتل ، أو يغلب فلا تتكل على هذه الأسباب أصلا ، بل على مسبب الأسباب كما ضربنا المثل في الوكيل في الخصومة ، فإنه إن حضر وأحضر السجل فلا يتكل على نفسه وسجله ، بل يتكل على كفاية الوكيل وقوته وأما الحال فهو أن يكون راضيا بما يقضي الله تعالى به في بيته ونفسه ، ويقول : اللهم إن سلطت علي ما في البيت من يأخذه فهو في سبيلك ، وأنا راض بحكمك ، فإني لا أدري أن ما أعطيتني هبة فلا تسترجعها ، أو عارية ووديعة فتستردها ، ولا أدري أنه رزقي ، أو سبقت مشيئتك في الأزل بأنه رزق غيري ، وكيفما قضيت فأنا راض به وما أغلقت الباب تحصنا من قضائك وتسخطا له ، بل جريا على مقتضى سنتك في ترتيب الأسباب فلا ثقة إلا بك يا مسبب الأسباب ، فإذا كان هذا حاله ، وذلك الذي ذكرناه علمه لم يخرج عن حدود التوكل بعقل البعير ، وأخذ السلاح ، وإغلاق الباب ، ثم إذا عاد فوجد متاعه في البيت فينبغي أن يكون ذلك عنده نعمة جديدة من الله تعالى ، وإن لم يجده ، بل وجده مسروقا نظر إلى قلبه ، فإن وجده راضيا ، أو فرحا بذلك عالما أنه ما أخذ الله تعالى ذلك منه إلا ليزيد رزقه في الآخرة فقد صح مقامه في التوكل ، وظهر له صدقه وإن تألم قلبه به ، ووجد قوة الصبر فقد بان له أنه ما كان صادقا في دعوى التوكل ؛ لأن التوكل مقام بعد الزهد ولا يصح الزهد إلا ممن لا يتأسف على ما فات من الدنيا ، ولا يفرح بما يأتي ، بل يكون على العكس منه فكيف يصح له التوكل نعم قد يصح له مقام الصبر إن أخفاه ولم يظهر شكواه ، ولم يكثر سعيه في الطلب والتجسس وإن لم يقدر على ذلك حتى تأذى بقلبه ، وأظهر الشكوى بلسانه ، واستقصى الطلب ببدنه ، فقد كانت السرقة مزيدا له في ذنبه من حيث إنه ظهر له قصوره عن جميع المقامات وكذبه في جميع الدعاوي فبعد هذا ينبغي أن يجتهد حتى لا يصدق نفسه في دعاويها ولا يتدلى بحبل غرورها ، فإنها خداعة أمارة بالسوء مدعية للخير .

فإن قلت فكيف يكون للمتوكل مال حتى يؤخذ فأقول المتوكل لا يخلو بيته من متاع كقصعة يأكل فيها ، وكوز يشرب منه ، وإناء يتوضأ منه ، وجراب يحفظ به زاده ، وعصا يدفع بها عدوه ، وغير ذلك من ضرورات المعيشة من أثاث البيت وقد يدخل في يده مال وهو يمسكه ليجد محتاجا فيصرفه إليه ، فلا يكون ادخاره على هذه النية مبطلا لتوكله .

التالي السابق


(وفيه) ، أي: في هذا المقام (أسرار) غريبة (لا يقف عليها من لم ينته إليها، فإن قلت: هل من علامة أعلم بها أني قد وصلت إليها، فأقول الواصل) إلى تلك المقامات (لا يحتاج إلى طلب العلامات، ولكن من العلامات السابقة عليه) لأجل الاختبار حتى لا يقع في غرور (أن يسخر لك كلب هو معك في إهابك) ، أي: جلدك (يسمى الغضب) شبه به في كون كل منهما عقورا، (فلا يزال يعضك ويعض غيرك) ولذلك قال بعض الرهبان لما قيل له: يا راهب: لست براهب إنما أنا ساجر كلب، أخاف أن يعض الناس، أراد به نفسه، (فإن سخر لك هذا الكلب بحيث إذا هيج وأشلي) ، أي: أغري (لم يستشل إلا بإشارتك) ، أي: لم يثق إلا بها (وكان مسخرا لك) منقادا في طوعك، فإذا تم لك ذلك (فربما ترتفع درجتك إلى أن يسخر لك الأسد الذي هو ملك السباع) في البر (وكلب دارك أولى من أن يكون مسخرا لك من كلب البوادي، وكلب إهابك أولى بأن يسخر من كلب دارك، فإذا لم يسخر لك الكلب الباطن) الذي هو النفس الأمارة بالغضب (فلا تطمع في استسخار الكلب الظاهر) ، فهذا أحد العلامات، فاختبر بها نفسك، (فإن قلت: فإذا أخذ المتوكل سلاحه حذرا من العدو، وأغلق بابه حذرا من اللص، وعقل بعيره حذرا من أن ينطلق فبأي اعتبار يكون متوكلا) وما فعله ظاهره يناقض التوكل .

(فأقول: يكون متوكلا بالعلم والحال، فأما العلم فهو أن يعلم أن اللص إن اندفع) عن بيته لم يندفع (بكفايته في إغلاق الباب، بل لم يندفع إلا بدفع الله تعالى إياه) ، ولولا دفع الله لم يندفع، وإلا (فكم من باب يغلق ولا ينفع) ، بل أيكسر الغلق ويؤخذ ما فيه، أو يتسور عليه (وكم من بعير يعقل ويموت، أو يفلت) من عقاله، (وكم من آخذ سلاحه يقتل، أو يغلب) من حيث لا يدري (فلا يتكل على هذه الأسباب أصلا، بل على مسبب الأسباب) ومسخرها ومسهلها، وهذا إنما يصل إليه بقوة علمه في توحيد الباري جل جلاله، (كما ضربنا المثل في الوكيل في الخصومة، فإنه إن حضر وأحضر السجل فلا يتكل على نفسه وسجله، بل على كفاية الوكيل وقوته) ومساعدته .

(وأما الحال فهو أن يكون راضيا بما يقضي الله تعالى به في بيته ونفسه، ويقول: اللهم إن سلطت علي ما في البيت) من المتاع (من يأخذه فهو في سبيلك، وأنا راض بحكمك، فإني لا أدري أن ما أعطيتني) من المتاع (هبة) [ ص: 509 ] محضة منك (فلا تسترجعها، أو عارية ووديعة فتستردها، ولا أدري أنه رزقي، أو سبقت مشيئتك في الأزل بأنه رزق غيري، وكيفما قضيت فأنا راض به) على كل حال، (وما أغلقت الباب تحصينا من قضائك وتسخطا له، بل حريا على مقتضى سنتك في ترتيب الأسباب) على مسبباتها (فلا ثقة إلا بك يا مسبب الأسباب، فإذا كان هذا حاله، وذلك الذي ذكرناه علمه لم يخرج عن حدود التوكل بعقل البعير، وأخذ السلاح، وإغلاق الباب، ثم) ذلك المتوكل (إذا عاد فوجد متاعه في البيت) لم يؤخذ (فينبغي أن يكون ذلك عنده نعمة جديدة من الله تعالى، وإن لم يجده، بل وجده مسروقا نظر إلى قلبه، فإن وجده راضيا، أو فرحا بذلك عالما أنه ما أخذ الله ذلك منه إلا ليزيد رزقه في الآخرة) وأنه ما من رزق ينقص له من الدنيا إلا وهو زيادة له في رزق الآخرة، كما سبق .

(فقد صح مقامه في التوكل، وظهر له صدقه) فيه، فإن حمد الله وشكره على حسن بلائه أعطي ثواب الشاكرين الراضين، كما جاء في الخبر: يا رب من أولياؤك من خلقك؟ قال: الذي إذا أخذت منه المحبوب فسالمني، (وإن تألم قلبه به، ووجد قوة الصبر فقد بان له أنه ما كان صادقا في دعوى التوكل؛ لأن التوكل مقام بعد الزهد) وإن لم يكن شرطا فيه (ولا يصح الزهد إلا ممن لا يتأسف على ما فات من الدنيا، ولا يفرح بما يأتي، بل يكون على العكس منه) ، كما تقدم في كتاب الزهد (فكيف يصح له التوكل) ، وهو لم يكن في مقام الزهد، ومقامات اليقين التسعة كلها على ترتيب، ومثل هذا جناية من المؤمنين يستغفرون الله منه ويتوبون إليه، كما يتوبون من المعاصي، (نعم قد يصح له مقام الصبر إن أخفاه ولم يظهر شكواه، ولم يكثر سعيه في الطلب والتجسس) فهو يعطي ثواب الصابرين المجاهدين، (وإن لم يقدر على ذلك حتى تأذى بقلبه، وأظهر الشكوى بلسانه، واستقصى الطلب ببدنه، فقد كانت السرقة مزيدا له في ذنبه من حيث إنه ظهر له قصوره عن جميع المقامات) الصبر والشكر والفقر والزهد والتوحيد والتوكل والرضا .

(و) ظهر أيضا (كذبه في جميع الدعاوي) فليبك على نفسه، وليستأنف التوبة والدخول في الطريق (فبعد هذا ينبغي أن يجتهد حتى لا يصدق نفسه في دعاويها ولا يتدلى بحبل غرورها، فإنها خداعة) غرارة (أمارة بالسوء مدعية للخير) ، فهذه كلها ذنوب عند المتوكلين، وموجبات التوبة والاستغفار عند الموقنين، (فإن قلت فكيف يكون للمتوكل مال حتى يؤخذ) ، والمتوكل لا يأوي على مال ولا متاع (فأقول المتوكل لا يخلو بيته من متاع كقصعة يأكل فيها، وكوز يشرب منه، وإناء يتوضأ منه، وجراب يحفظ به زاده، وعصا يدافع بها عدوه، وغير ذلك من ضرورات المعيشة من أثاث البيت) كحصيرة يرقد عليها، ويصلي فوقها، ووسادة يضعها تحت رأسه .

(وقد يدخل في يده مال) من إرث، أو كسب، أو هبة، أو غير ذلك (وهو يمسكه) عنه بعد أن يفضل من قوته (ليجد محتاجا فيصرفه إليه، فلا يكون ادخاره على هذه النية مبطلا لتوكله) ، بل هو مدخر لحقوق الله التي أوجبها عليه، والقيام بحقوق الله لا ينقص مقامات العبد، بل يزيدها علوا .




الخدمات العلمية