الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وذلك هو الغني الذي يرى نفسه مثل الفقير ؛ إذ لا يمسك لنفسه من المال إلا قدر الضرورة ، والباقي يصرفه إلى الخيرات أو يمسكه على اعتقاد أنه خازن للمحتاجين والمساكين ، وإنما ينتظر حاجة تسنح : حتى يصرف إليها ثم إذا صرف لم يصرفه لطلب جاه وصيت : ولا لتقليد منة بل أداء لحق الله تعالى في تفقد عباده فهذا أفضل من الفقير الصابر

فإن قلت : فهذا لا يثقل على النفس ، والفقير يثقل عليه الفقر لأن هذا يستشعر لذة القدرة وذاك يستشعر ألم الصبر فإن كان متألما بفراق المال فينجبر ذلك بلذته في القدرة على الإنفاق ، فاعلم أن الذي تراه أن من ينفق ماله عن رغبة وطيب نفس أكمل حالا ممن ينفقه وهو بخيل به ، وإنما يقتطعه عن نفسه قهرا ،

وقد ذكرنا تفصيل هذا فيما سبق من كتاب التوبة فإيلام النفس ليس مطلوبا لعينه بل لتأديبها : وذلك يضاهي ضرب كلب الصيد ، والكلب المتأدب أكمل من الكلب المحتاج إلى الضرب ، وإن كان صابرا على الضرب ؛ ولذلك يحتاج إلى الإيلام والمجاهدة في البداية : ولا يحتاج إليهما في النهاية ، بل النهاية أن يصير ما كان مؤلما في حقه لذيذا عنده كما يصير التعلم عند الصبي العاقل لذيذا وقد كان مؤلما له أولا ، ولكن لما كان الناس كلهم إلا الأقلين في البداية بل قبل البداية بكثير كالصبيان أطلق الجنيد القول بأن الذي يؤلم صفته أفضل ، وهو كما قال صحيح فيما أراده من عموم الخلق ، فإذا إذا كنت لا تفصل الجواب وتطلقه لإرادة الأكثر فأطلق القول بأن الصبر أفضل من الشكر فإنه صحيح بالمعنى السابق إلى الأفهام .

التالي السابق


(و) أما قولهم: الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر فإن (ذلك هو الغني الذي يرى نفسه مثل الفقير؛ إذ لا يمسك لنفسه من المال إلا قدر الضرورة، والباقي يصرفه إلى الخيرات أو يمسكه على اعتقاد أنه خازن للمحتاجين والمساكين، وإنما ينتظر حاجة تسنح) أي: تعرض (حتى يصرف) ذلك (إليها إذا صرف لم يصرفه بطلب جاه وصيت) أي: شهرة بين الناس (ولا لتقليد منة بل أداء لحق الله [ ص: 161 ] تعالى في تفقد عباده فهذا أفضل من الفقير الصابر) بهذا الاعتبار (فإن قلت: فهذا) الذي ذكرته (لا يثقل على النفس، والفقير يثقل عليه الفقر لأن هذا يستشعر لذة القدرة) والملك (وذلك يستشعر ألم الصبر) على العدم (فإن كان متألما لفراق المال فينجبر ذلك بلذته في القدرة على الإنفاق، فاعلم أن الذي نراه أن من ينفق ماله عن رغبة وطيب نفس أكمل حالا ممن ينفق وهو بخيل به، وإنما يقتطعه عن نفسه قهرا، وقد ذكرنا تفصيل هذا فيما سبق من كتاب التوبة) فليراجع هناك .

(فإيلام النفس ليس مطلوبا لعينه بل لتأديبها) أي: لتتأدب (وذلك يضاهي ضرب كلب الصيد، والكلب المتأدب أكمل من الكلب المحتاج إلى الضرب، وإن كان صابرا على الضرب؛ ولذلك يحتاج إلى الإيلام والمجاهدة في البداية) أي: في ابتداء السلوك (ولا يحتاج إليها في النهاية، بل النهاية أن يصير ما كان مؤلما في حقه لذيذا عنده) وهو مقام الرضا وينشأ عن المحبة (كما يصير التعلم عند الصبي العاقل لذيذا عنده) وهو مقام الرضا وينشأ عن المحبة (كما يصير التعلم عند الصبي العاقل لذيذا وقد كان مؤلما له أولا، ولكن لما كان الناس كلهم إلا الأقلين في) درجة (البداية بل قبل البداية بكثير كالصبيان) في نقصهم. (أطلق الجنيد) رحمه الله تعالى (القول بأن الذي يؤلم صفته أفضل، وهو كما قال صحيح فيما أراده من عموم الخلق، فإذا كنت لا تفصل الجواب وتطلقه لإرادة الأكثر فأطلق القول بأن الصبر أفضل من الشكر لأنه صحيح بالمعنى السابق إلى الأفهام) وإليه ذهب أكثر الصوفية قديما وحديثا .

ورأيت الكمال أبا بكر محمد بن إسحاق الصوفي قد جنح في كتابه "مقاصد المنجيات"، إلى تفضيل الشكر على الصبر، وترجيحه عليه، وكلامه فيه غريب، فأحببت أن أورده بتمامه، ولا أترك منه شيئا لتمام الفائدة؛ إذ هو من وادي كلام المصنف فقال: "الفرع الثاني في فضل الشكر على الصبر اختلف العلماء في ذلك بين المرجح لأحدهما، والمسوي لهما، ولا شك أن الصبر مقام محمود تعرف فضيلته بالشرع والتجربة، ولكن قد تقرر أن المقامات منازل، ولها ترتيب في السلوك، كالشرط والمشروط، والوسيلة والمقصود، ومن النوادر أن يصل السالك إلى مقصود قبل الدخول في وسيلته، ولا شك أن الصبر منزل يضع التائب قدمه الأول فيه، وقد قطع عقبات كثيرة، فيصفو قلب السالك، وتحلو له العبادة، وينكشف له الوجود، فيرى نعم الله الدارة عليه ظاهرة وباطنة، فيفرح بنعم الله، ويسلك الطريق بحال الشكر، بعد أن كان سالكا بحال الصبر. ونفس السلوك لا يختلف وإنما تختلف الأحوال الباعثة عليه، والعمل الواحد لا يحث عليه حالان شرعيان لأن سوادين لا يكونان في محل واحد في زمن واحد احتراز لذلك عن وازع الطبع، فإنه يحث وازع الشرع في زمان واحد، نعم يكون أحدهما للسالك، والثاني فعلا لحقيقته وقوته واستيلائه. وقد ترجح الشكر عندي بهذه المقدمة وبترجيحات سبعة هي معروضة عليك فسنذكر أولا حقيقة التفاضل ثم نورد فيها بما وعدنا به حقيقية التفاضل بين الأشياء الفضيلة مأخوذة من الفضل، وهو الزيادة، فمهما تشارك شيئان في أمر واختص أحدهما بمزيد يقال فضله، وله الفضل عليه، ولا يصح التفاضل بين عملين من حيث إن أحدهما أشق على فاعله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، وليس رأس البتر من الطريق بأسهل من قول لا إله إلا الله، وقد أثنى الله على أعمال الملائكة بعدم السآمة والملل والانقطاع، وإن تسبيحهم يجري منا مجرى النفس، وذلك غاية الملاذ، ولا من حيث كثرة الثناء على أحدهما دون الآخر، فقد شوقنا ربنا جل جلاله إلى الجنة وما فيها أكثر مما شوقنا من النظر إلى وجهه تعالى، ولا قائل بأن لذات الجنة أفضل من لذة النظر إلى وجهه تعالى فعلى هذا تعرف أن حقيقة التفاضل وزن ذات الشيئين وصفاتهما بميزان البراهين فأيهما رجح فهو الأفضل، مثال ذلك الشكر أرجح من الصبر بسبعة أسباب أحدها أن الله تعالى تسمى بهما جميعا فجاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي الصبور، وجاء في كتاب الله الشكور، فكما قيل في الصبور مضمن في الشكور، وزاد عليه بثنائه على نفسه وعلى عباده بكلامه القديم، ولا يوجد مثل هذا في اسمه الصبور، الثاني النظر في سببهما، وسبب الصبر معرفة الآلاء، وسبب الشكر معرفة ذي النعماء، وشتان بين المعرفتين، الثالث: النظر في حالهما فحال الصبر [ ص: 162 ] استدعاء المكابدة والمجاهدة للغلبة، وحال الشكر استدعاء الفرح برؤية المنة، والخادم الفرح أفضل من المتكلف عند المخدوم، الرابع: النظر في أعمالهما فعمل الصبر محنة وابتلاء، وعمل الشكر نعمة مشكور عليها عند الشاكر، وفرق بين من شهد التكاليف محنة وابتلاء فيصبر عليه، أو بين من يراها نعمة تشوقه إلى جوار الله تعالى فيشكر عليها، الخامس: النظر في علاجهما أو علاج الصبر رؤية الجزاء للظفر، وعلاج الشكر رؤية المريد لطاعة المجيد، السادس: النظر في استدامتهما في السلوك، فالشكر مستحب للسالك في كل مقام وحال، والأحوال والمقامات لا نهاية لها، فالشكر على ذلك لا نهاية له، والصبر ينقطع عنه أول مقام من مقامات الرضا بالإجماع من مشايخ السلوك، السابع: النظر في الاستدامة المطلقة؛ إذ لو فرضنا أن الصبر دائم لكان إلى الموت والشكر في الآخرة من المؤمن والكافر، قال الله تعالى: وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، وقال تعالى: يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده ، فهذا يعم المؤمن والكافر. فهذه سبع ترجيحات كافية للمتأمل، فهكذا ينبغي أن يكون الترجيح بين شيئين إذا رجح أحدهما عمل في الارتقاء إليه والله أعلم"، انتهى كلامه .




الخدمات العلمية