الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذ بان لك معنى سوء الخاتمة وما هو مخوف فيها فاشتغل بالاستعداد لها فواظب على ذكر الله تعالى وأخرج من قلبك حب الدنيا ، واحرس عن فعل المعاصي جوارحك وعن الفكر فيها قلبك واحترز عن مشاهدة المعاصي ومشاهدة أهلها جهدك فإن ذلك أيضا يؤثر في قلبك ويصرف إليه فكرك وخواطرك وإياك أن تسوف وتقول سأستعد لها إذا جاءت الخاتمة فإن كل نفس من أنفاسك خاتمتك إذ يمكن أن تخطف فيه روحك فراقب قلبك في كل تطريفة وإياك أن تهمله لحظة فلعل تلك اللحظة خاتمتك إذ يمكن أن تختطف فيها روحك هذا ما دمت في يقظتك وأما إذا نمت فإياك أن تنام إلا على طهارة الظاهر والباطن وأن يغلبك النوم إلا بعد غلبة ذكر الله على قلبك لست أقول على لسانك فإن حركة اللسان بمجردها ضعيفة الأثر .

واعلم قطعا أنه لا يغلب عند النوم على قلبك إلا ما كان قبل النوم غالبا عليه وأنه لا يغلب في النوم إلا ما كان غالبا قبل النوم ، ولا ينبعث عن نومك إلا ما غلب على قلبك في نومك ، والموت والبعث شبيه النوم واليقظة فكما لا ينام العبد إلا على ما غلب عليه في يقظته ولا يستيقظ إلا على ما كان عليه في نومه فكذلك لا يموت المرء إلا على ما عاش عليه ، ولا يحشر إلا على ما مات عليه وتحقق قطعا ويقينا أن الموت والبعث حالتان من أحوالك كما أن النوم واليقظة حالتان من أحوالك وآمن بهذا تصديقا باعتقاد القلب إن لم تكن أهلا لمشاهدة ذلك بعين اليقين ونور البصيرة وراقب أنفاسك ولحظاتك وإياك أن تغفل عن الله طرفة عين فإنك إذا فعلت ذلك كله كنت مع ذلك في خطر عظيم ، فكيف إذا لم تفعل

والناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم .

واعلم أن ذلك لا يتيسر لك ما لم تقنع من الدنيا بقدر ضرورتك وضرورتك مطعم وملبس ومسكن والباقي كله فضول والضرورة من المطعم ما يقيم صلبك ويسد رمقك فينبغي أن يكون تناولك تناول مضطر كاره له ولا تكون رغبتك فيه أكثر من رغبتك في قضاء حاجتك .

إذ لا فرق بين إدخال الطعام في البطن وإخراجه فهما ضرورتان في الجبلة ، وكما لا يكون قضاء الحاجة من همتك التي يشتغل بها قلبك ، فلا ينبغي أن يكون تناول الطعام من همتك .

واعلم أنه إن كان همتك ما يدخل بطنك فقيمتك ما يخرج من بطنك وإذ لم يكن قصدك من الطعام إلا التقوى على عبادة الله تعالى كقصدك من قضاء حاجتك فعلامة ذلك تظهر في ثلاثة أمور : .

من مأكولك في وقته وقدره وجنسه أما الوقت فأقله أن يكتفي في اليوم والليلة بمرة واحدة فيواظب على الصوم وأما قدره فبأن لا يزيد على ثلث البطن وأما جنسه فأن لا يطلب لذائذ الأطعمة بل يقنع بما يتفق فإن قدرت على هذه الثلاثة وسقطت عنك مئونة الشهوات واللذائذ قدرت بعد ذلك على ترك الشبهات وأمكنك أن لا تأكل إلا من حله فإن الحلال يعز ولا يفي بجميع الشهوات وأما ملبسك فليكن غرضك منه دفع الحر والبرد وستر العورة فكل ما دفع البرد عن رأسك ولو قلنسوة بدانق فطلبك غيره فضول منك يضيع فيه زمانك ويلزمك الشغل الدائم والعناء القائم في تحصيله بالكسب مرة والطمع أخرى من الحرام والشبهة ، وقس بهذا ما تدفع به الحر والبرد عن بدنك فكل ما حصل مقصود اللباس إن لم تكتف به في خساسة قدره وجنسه لم يكن لك موقف ومرد بعده .

بل كنت ممن لا يملأ بطنه إلا التراب وكذلك المسكن إن اكتفيت بمقصوده كفتك السماء سقفا والأرض مستقرا فإن غلبك حر أو برد فعليك بالمساجد فإن طلبت مسكنا خاصا طال عليك وانصرف إليه أكثر عمرك وعمرك هو بضاعتك ثم إن تيسر لك فقصدت من الحائط سوى كونه حائلا بينك وبين الأبصار ومن السقف سوى كونه دافعا للأمطار فأخذت ترفع الحيطان وتزين السقوف فقد تورطت في مهواة يبعد رقيك منها وهكذا جميع ضرورات أمورك إن اقتصرت عليها تفرغت لله وقدرت على التزود لآخرتك والاستعداد لخاتمتك وإن جاوزت حد الضرورة إلى أودية الأماني تشعبت همومك ولم يبال الله في أي واد أهلكك فاقبل هذه النصيحة ممن هو أحوج إلى النصيحة منك .

واعلم أن متسع التدبير والتزود والاحتياط هذا العمر القصير فإذا دفعته يوما بيوم في تسويفك أو غفلتك اختطفت فجأة في غير وقت إرادتك ولم تفارقك حسرتك وندامتك فإن كنت لا تقدر على ملازمة ما أرشدت إليه بضعف خوفك إذا لم يكن فيما وصفناه من أمر الخاتمة كفاية في تخويفك ، فإنا سنورد عليك من أحوال الخائفين ما نرجو أن يزيل بعض القساوة عن قلبك فإنك تتحقق أن عقل الأنبياء والأولياء والعلماء وعملهم ومكانهم عند الله تعالى لم يكن دون عقلك وعملك ومكانك فتأمل مع كلال بصيرتك وعمش عين قلبك في أحوالهم ثم اشتد بهم الخوف وطال بهم الحزن والبكاء حتى كان بعضهم يصعق وبعضهم يدهش وبعضهم يسقط مغشيا عليه وبعضهم يخر ميتا إلى الأرض ولا غرو أن كان ذلك لا يؤثر في قلبك فإن قلوب الغافلين مثل الحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون

بيان أحوال الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام في الخوف

.

التالي السابق


(وإذ بان معنى سوء الخاتمة وما هو مخوف فيها فاشتغل بالاستعداد لها فواظب على ذكر الله تعالى وأخرج من قلبك حب الدنيا، واحرس عن فعل المعاصي جوارحك) الظاهرة (ومن الفكر فيها قلبك واحترز من مشاهدة المعاصي ومشاهدة أهلها جهدك) وطاقتك (فإن ذلك أيضا يؤثر في قلبك) تأثيرا يحول بينك وبين ذكر الله (ويصرف إليه فكرك وخواطرك) فيشغلك عن الله (وإياك أن تسوف وتقول سأستعد لها إذا جاءت [ ص: 243 ] الخاتمة) عند زهوق الروح (فإن كل نفس من أنفاسك) هي (خاتمتك إذ يمكن أن يختطف فيها روحك) بغتة (هذا ما دمت في يقظتك وأما إذا نمت فإياك أن تنام إلا على طهارة الظاهر والباطن وأن يغلبك النوم إلا بعد غلبة ذكر الله على قلبك) إما نفيا وإثباتا وإما اقتصارا على لفظة الله مع كمال المراقبة (لست أقول على لسانك فإن حركة اللسان بمجردها ضعيفة الأثر) بل ولا تأثير لها في تجلية القلب أصلا .

(واعلم قطعا أنه لا يغلب عند النوم على قلبك إلا ما كان غالبا عليه قبل النوم، ولا تبعث عن نومك إلا على ما غلب على قلبك في نومك، والموت والبعث يشبه النوم واليقظة فكما لا ينام العبد إلا على ما غلب عليه في يقظته ولا يستيقظ إلا على ما كان عليه في نومه فكذلك لا يموت المرء إلا على ما عاش عليه، ولا يحشر إلا على ما مات عليه) وقد وردت بذلك الأخبار وتقدم ذكرها (وتحقق يقينا وقطعا أن الموت والبعث حالتان من أحوالك كما أن النوم واليقظة حالتان من أحوالك وآمن بهذا تصديقا باعتقاد القلب إن لم تكن أهلا لمشاهدة ذلك بعين اليقين ونور البصيرة وراقب أنفاسك ولحظاتك) كلها أن تمر في غير ذكر الله (وإياك أن تغفل عن الله لحظة عين) وفي نسخة: طرفة عين (فإنك إذا فعلت ذلك كله) أي: من الإيمان القلبي ومراقبة الأنفاس واللحظات (كنت مع ذلك في خطر عظيم، فكيف إذا لم تفعل فالناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم) هذا من قول أبي محمد سهل التستري - رحمه الله - تعالى، وقد تقدم مرارا .

(واعلم أن ذلك لا يتيسر لك ما لم تقتنع من الدنيا بقدر ضرورتك) فقط (وضرورتك) إنما هي (مطعم وملبس ومسكن) والمشرب داخل في المطعم (والباقي كله فضول) ولكل من الثلاثة حد محدود (والضرورة من المطعم ما يقيم صلبك) في طاعة الله (ويسد رمقك فينبغي أن يكون تناولك) لما تأكله (تناول مضطر كاره له ولا تكون رغبتك فيه أكثر من رغبتك في قضاء حاجتك، إذ لا فرق بين إدخال الطعام في البطن وإخراجه فهما ضروريان في الجبلة، وكما لا يكون قضاء الحاجة من همتك التي يشتغل بها قلبك، فلا ينبغي أن يكون تناول الطعام من همتك، واعلم أنه إن كان همتك ما يدخل بطنك فقيمتك ما يخرج من بطنك) هكذا قرره الحكماء .

(وإذا لم يكن قصدك من الطعام إلا التقوى على عبادة الله) وطاعته (كقصدك من قضاء حاجتك فعلامة ذلك تظهر في ثلاثة أمور: من مأكولك في وقته وقدره وجنسه أما الوقت فأقله أن يكتفي في اليوم والليلة) وهما أربع وعشرون ساعة (بمرة واحدة) ويكون ذلك وقت غروب الشمس (فيواظب على الصوم وأما قدره فبأن لا يزيد على ثلث البطن (كما ورد ذلك في الخبر (وأما جنسه فأن لا يطلب اللذائذ من الأطعمة بل يقنع بما يتفق) ويتيسر (فإن قدرت على هذه الثلاث وسقط عنك مؤنة الشهوات اللذائذ قدرت بعد ذلك على ترك الشبهات) والمحرمات (وأمكنك أن لا تأكل إلا من حله فإن الحلال يعز) أي: يقل (وجدانه و) إذا وجد فإنه (لا يفي بجميع الشهوات) واللذات (وأما ملبسك فليكن غرضك منه دفع الحر والبرد وستر العورة [ ص: 244 ] فكل ما دفع البرد عن رأسك ولو قلنسوة بدانق) فقد حصل المقصود (وحينئذ فطلبك غيره فضول منك يضيع زمانك ويلزمك الشغل الدائم والعناء القائم في تحصيله بالكسب مرة والطمع) لما في أيدي الناس (أخرى سواء) كان من الحلال أو (من الحرام والشبهة، وقس بهذا ما تدفع به الحر والبرد عن بدنك فكل ما حصل مقصود اللباس إن لم تكتف به في خساسة قدره وجنسه لم يكن لك موقف ومرد بعده بل كنت ممن لا يملأ بطنه إلا التراب) وفي الخبر: ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.

(وكذلك المسكن إن اكتفيت بمقصوده كفاك السماء سقفا والأرض مستقرا فإن غلبك حر وبرد فعليك بالمساجد) فإنها مأوى المساكين (فإن طلبت مسكنا خاصا) لا يشاركك فيه أحد (طال عليك) أمره (وانصرف إليه أكثر عمرك) في تحصيله وإحضاره (وعمرك هو بضاعتك) التي بها تربح في معاملاتك .

(ثم إن تيسر لك فقصدت من الحائط سوى كونه حائلا بينك وبين الإبصار) أي: من الأجنبي (ومن السقف سوى) كونه (دافعا للأمطار فأخذت ترفع الحيطان وتزين السقوف فقد تورطت في مهواة يبعد رقيك) أي: صعودك (منها وهكذا جميع ضرورات أمورك إن اقتصرت عليها تفرغت لله وقدرت على التزود لآخرتك والاستعداد لخاتمتك وإن جاوزت حد الضرورة إلى أودية الأماني والآمال الكاذبة تشعبت همومك) أي: كثرت واختلفت (ولم يبال الله في أي واد أهلكك) .

وقد روى ابن ماجه والحكيم والشاشي والبيهقي من حديث أبي مسعود: من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك.

(فاقبل هذه النصيحة ممن هو أحوج إلى النصيحة منك، واعلم أن متسع التدبير والتزود والاحتياط هو هذا العمر القصير فإذا دفعته يوما بيوم في تسويفك وإعلالك وغفلتك اختطفت فجأة من غير وقت إرادتك ولم تفارقك حسرتك وندامتك) حيث لا ينفعك ذلك (فإن كنت لا تقدر على ملازمة ما أرشدت إليه لضعف خوفك إذ لم يكن فيما وصفناه من أمر الخاتمة كفاية من تخويفك، فأنا سنورد عليك من أحوال الخائفين ما نرجو أن يزيل بعض القساوة من قلبك فإنك تتحقق أن عقل الأنبياء) - عليهم السلام - (والأولياء وعلمهم ومكانتهم عند الله تعالى لم يكن دون عقلك وعملك ومكانك فتأمل مع كلال بصيرتك) أي: ضعفها (وعمش عين قلبك في) جملة من (أحوالهم) وسيرهم (ثم اشتد بهم الخوف وطال بهم الحزن والبكاء حتى كان بعضهم يضعف وبعضهم يدهش وبعضهم يسقط مغشيا عليه وبعضهم يخر ميتا إلى الأرض ولا غرو إن كان ذلك لا يؤثر في قلبك فإن قلوب الغافلين مثل الحجارة) في شدتها وصلابتها (أو أشد قسوة) منها ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون ) .




الخدمات العلمية