الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فقوله صلى الله عليه وسلم : " لا أحصي " خبر عن فناء نفسه وخروج عن مشاهدتها .

وقوله : " أنت كما أثنيت على نفسك " بيان أنه المثني والمثنى عليه وأن الكل منه بدأ ، وإليه يعود ، وأن كل شيء هالك إلا وجهه فكان أول مقاماته نهاية مقامات الموحدين ، وهو أن لا يرى إلا الله تعالى وأفعاله فيستعيذ بفعل من فعل ، فانظر إلى ماذا انتهت نهايته إذ انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق ولقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرقى من رتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعدا بالإضافة إلى الثانية فكان يستغفر الله من الأولى ، ويرى ذلك نقصا في سلوكه وتقصيرا في مقامه وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة .

فكان ذلك لترقيه إلى سبعين مقاما بعضها فوق البعض أولها وإن كان مجاوزا أقصى غايات الخلق ولكن كان نقصانا ، بالإضافة إلى آخرها ، فكان استغفاره ولما قالت عائشة رضي الله عنها أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فما هذا البكاء في السجود ؟ وما هذا الجهد الشديد قال : أفلا أكون عبدا شكورا .

أفلا أكون طالبا للمزيد في المقامات ، فإن الشكر سبب الزيادة حيث قال تعالى : لئن شكرتم لأزيدنكم .

وإذ تغلغلنا في بحار المكاشفة ، فلنقبض العنان ، ولنرجع إلى ما يليق بعلوم المعاملة ، فنقول : الأنبياء عليهم السلام بعثوا لدعوة الحق إلى كمال التوحيد الذي وصفناه ولكن بينهم وبين الوصول إليه مسافة بعيدة ، وعقبات شديدة ، وإنما الشرع كله تعريف طريق سلوك تلك المسافة ، وقطع تلك العقبات ، وعند ذلك يكون النظر عن مشاهدة أخرى ، ومقام آخر ، فيظهر في ذلك المقام بإضافة إلى تلك المشاهدة ، الشكر ، والشاكر ، والمشكور ، ولا يعرف ذلك إلا بمثال فأقول : يمكنك أن تفهم أن ملكا من الملوك أرسل إلى عبد قد بعد منه مركوبا وملبوسا ونقدا لأجل زاده في الطريق حتى يقطع به مسافة البعد ، ويقرب من حضرة الملك ، ثم يكون له حالتان ، إحداهما أن يكون قصده من وصول العبد إلى حضرته أن يقوم ببعض مهماته ، ويكون له عناية في خدمته ، والثانية أن لا يكون للملك حظ في العبد ، ولا حاجة به إليه ، بل حضوره لا يزيد في ملكه ، لأنه لا يقوى على القيام بخدمة تغني فيه غناء ، وغيبته لا تنقص من ملكه ، فيكون قصد من الإنعام عليه بالمركوب والزاد أن يحظى العبد بالقرب منه وينال سعادة حضرته لينتفع هو في نفسه لا لينتفع الملك به وبانتفاعه فمنزل ، العباد من الله تعالى في المنزلة الثانية لا في المنزلة الأولى فإن الأولى محال على الله تعالى والثانية غير محال .

التالي السابق


(فقوله: "لا أحصي" خبر عن فناء نفسه وخروجه عن مشاهدتها، وقوله: "أنت كما أثنيت على نفسك" بيان أنه المثني وهو المثنى عليه) وهو الذي أشار إليه الصديق رضي الله عنه حيث قال: العجز عن درك الإدراك إدراك، (وأن الكل منه بدأ، وإليه يعود، وأن كل شيء هالك إلا وجهه) ، وأنه لا يحيط مخلوق من ملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة والدهشة، (فكان أول مقامه) صلى الله عليه وسلم (نهاية مقام الموحدين، وهو أن لا يرى) في الوجود (إلا الله وأفعاله فيستعيذ بفعل من فعل، فانظر إلى ماذا انتهت نهايته إذ انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق) ، وهذا المقام غاية ما ينتهي إليه من تم له مقام الفناء المطلق.

(ولقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرقى من رتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعدا) من الله تعالى (بالإضافة إلى الثانية فكان يستغفر الله تعالى من الأولى، ويرى ذلك نقصا في سلوكه وتقصيرا في مقامه) ، وهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، (وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة) . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان من حديث الأغر بن بشار المزني بلفظ: إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة، وقد تقدم في كتاب التوبة، وقبله في كتاب الدعوات. (فكان ذلك لترقيه إلى سبعين مقاما بعضها فوق البعض أوائلها وإن كان مجاوزا أقصى غايات الخلق ولكن كان نقصا، بالإضافة إلى أواخرها، فكان استغفاره لذلك) ، وقد تقدم الكلام عليه .

(ولما قالت عائشة رضي الله عنها) للنبي صلى الله عليه وسلم: (قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فما هذا البكاء في السجود؟ وما هذا الجهد الشديد؟ فقال: أفلا أكون عبدا شكورا) . رواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بقية حديث عطاء عنها المتقدم قبل هذا بتسعة أحاديث، وهو عند مسلم من رواية عروة عنها مختصرا، وهو كذلك في الصحيحين مختصرا من حديث المغيرة بن شعبة، وقوله: أفلا، الفاء للسببية من محذوف أي: أأترك تلك الكلفة نظرا إلى تلك المغفرة فلا أكون عبدا شكورا، لا بل ألزمها وإن غفر لي لأكون عبدا شكورا، فالمعنى أن المغفرة سبب ذلك التكلف شكرا، فكيف أتركه بل أفعله لأكون مبالغا في الشكر بحسب الإمكان البشري، ومن ثم أتى بلفظ العبودية لأنها أخص أوصافه صلى الله عليه وسلم، ولذا ذكرها تعالى في أعلى المقامات وأفضل الأحوال إذ هي مقتضى النسبة المستلزمة للقيام بأعلى الخدمة، وهو الشكر، إذ العبد إذا لاحظ كونه عبدا وأن مالكه مع ذلك أنعم عليه بما لم يكن في حسابه علم تأكد وجوب الشكر والمبالغة فيه عليه أو (معناه أفلا أكون طالبا للمزيد في المقامات، فإن الشكر سبب الزيادة حيث قال: لئن شكرتم لأزيدنكم) . وقد تقدم قريبا وقيل تقدير الكلام: إذا أنعم علي بالإنعام الواسع أفلا أكون عبدا شكورا أي: أيصير هذا الإنعام سببا لخروجي عن دائرة المبالغين في الشكر، والاستفهام لإنكار سببية مثل هذا الإنعام لعدم كونه عبدا شكورا، ولا يخفى تكلفه، ويصح أن يكون التقدير: "غفر لي ما تقدم وما تأخر لعلمه بأني أكون مبالغا في عبادته فأكون عبدا شكورا [ ص: 60 ] فلا أكون كذلك، وهذا قريب من الأول .

(وإذ) قد (تغلغلنا في بحار) علوم (المكاشفة، فلنقبض العنان، ولنرجع إلى ما يليق بعلوم المعاملة، فنقول: الأنبياء) عليهم السلام (بعثوا لدعوة الخلق إلى كمال التوحيد الذي وصفناه) آنفا (ولكن بينهم وبين الوصول إليه مسافة بعيدة، وعقبات شديدة، وإنما الشرع كله) من أوله إلى آخره (تعريف طريق سلوك تلك المسافة، وقطع تلك العقبات، وعند ذلك يكون النظر عن مشاهدة أخرى، ومقام آخر، فيظهر في ذلك المقام بالإضافة إلى تلك المشاهدة، الشكر، والشاكر، والمشكور، ولا تعرف ذلك إلا بمثال) يضرب لك (فأقول: يمكنك أن تفهم أن ملكا من الملوك أرسل إلى عبد قد بعد منه مركوبا وملبوسا ونقدا) من المال (لأجل زاده في الطريق حتى يقطع به مسافة البعد، ويقرب من حضرة الملك، ثم تكون له حالتان، إحداهما أن يكون قصده من وصول العبد إلى حضرته أن يقوم) ذلك العبد (ببعض مهماته، ويكون له غناء في خدمته، والثانية أن لا يكون للملك حظ في العبد، ولا حاجة به إليه، بل حضوره لا يزيد في ملكه، لأنه لا يقوى على القيام بخدمة تغني فيه غناء، وغيبته لا تنقص من ملكه، فيكون قصده من الإنعام عليه بالمركوب والزاد أن يحظى العبد بالقرب منه وينال سعادة حضرته لينتفع هو في نفسه لا لينتفع الملك به وبانتفاعه، فمنزلة العباد من الله تعالى في المنزلة الثانية لا في المنزلة الأولى فإن الأولى محال على الله تعالى) لتنزيهه عن الافتقار والاحتياج إلى معين، (والثانية غير محال) .




الخدمات العلمية