الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
المقام الثاني في نسبة حال الفقير الحريص إلى حال الغني الحريص .

ولنفرض هذا في شخص واحد هو طالب للمال وساع فيه وفاقد له ثم وجده فله حالة الفقد وحالة الوجود فأي حالتيه أفضل ؟ فنقول : ننظر فإن كان مطلوبه ما لا بد منه في المعيشة وكان قصده أن يسلك سبيل الدين ويستعين به عليه فحال الوجود أفضل لأن الفقر يشغله بالطلب وطالب القوت لا يقدر على الفكر والذكر إلا قدرة مدخولة بشغل والمكفي هو القادر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا وقال كاد الفقر أن يكون كفرا أي الفقر مع الاضطرار فيما لا بد منه وإن كان المجلوب فوق الحاجة أو كان المطلوب قدر الحاجة ، ولكن لم يكن المقصود الاستعانة به على سلوك سبيل الدين فحالة الفقر أفضل وأصلح لأنهما استويا في الحرص وحب المال ، واستويا في أن كل واحد منهما ليس يقصد به الاستعانة على طريق الدين ، واستويا في أن كل واحد منهما ليس يتعرض لمعصية بسبب الفقر والغنى ، ولكن افترقا في أن الواجد يأنس بما وجده فيتأكد حبه في قلبه ويطمئن إلى الدنيا والفاقد المضطر يتجافى قلبه عن الدنيا وتكون الدنيا عنده كالسجن الذي يبغي الخلاص منه ومهما استوت الأمور كلها وخرج من الدنيا رجلان أحدهما أشد ركونا إلى الدنيا فحاله أشد لا محالة إذ يلتفت قلبه إلى الدنيا ويستوحش من الآخرة بقدر تأكد أنسه بالدنيا ، وقد قال : صلى الله عليه وسلم : إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه وهذا تنبيه على أن فراق المحبوب شديد .

فينبغي أن تحب من لا يفارقك وهو الله تعالى ولا تحب ما يفارقك وهو الدنيا ، فإنك إذا أحببت الدنيا كرهت لقاء الله تعالى ، فيكون قدومك بالموت على ما تكرهه وفراقك لما تحبه ، وكل من فارق محبوبا فيكون أذاه في فراقه بقدر حبه وقدر أنسه وأنس الواجد للدنيا القادر عليها أكثر من أنس الفاقد لها ، وإن كان حريصا عليها فإذا قد انكشف بهذا التحقيق أن الفقر هو الأشرف والأفضل والأصلح لكافة الخلق إلا في موضعين أحدهما غنى مثل غنى عائشة رضي الله عنها يستوي عنده الوجود والعدم فيكون الوجود مزيدا له إذ يستفيد به أدعية الفقراء والمساكين وجمع همهم والثاني الفقر عن مقدار الضرورة فإن ذلك يكاد أن يكون كفرا ولا خير فيه بوجه من الوجوه إلا إذا كان وجوده يبقي حياته ثم يستعين بقوته وحياته على الكفر والمعاصي ولو مات جزعا لكانت معاصيه أقل فالأصلح له أن يموت جوعا ولا يجد ما يضطر إليه أيضا . فهذا تفصيل القول في الغنى والفقر .

ويبقى النظر في فقير حريص متكالب على طلب المال ليس له هم سواه ، وفي غني دونه في الحرص على حفظ المال ولم يكن تفجعه بفقد المال لو فقده كتفجع الفقير بفقده ، فهذا في محل النظر والأظهر أن بعدهما عن الله تعالى بقدر قوة تفجعهما لفقد المال وقربهما بقدر ضعف تفجعهما بفقده ، والعلم عند الله تعالى فيه .

التالي السابق


(المقام الثاني في) بيان (نسبة حال الفقير الحريص إلى حال الغني الحريص، ولنفرض ذلك في شخص واحد وطالب للمال وساع فيه وفاقد له ثم وجد فله حال الفقير وحالة الوجود فأي حاليه أفضل؟ فنقول: ننظر فإن كان مطلوبه ما لا بد منه في المعيشة كان قصده أن يسلك سبيل الدين) لحج وجهاد وصلة وقربات (ويستعين به عليه) كمطعم ومسكن وملبس ونحو ذلك (فحال الوجود أفضل) في حقه (لأن الفقر يشغله بالطلب) والقلب إذا انصرف إلى ذلك لم يتفرغ للدين (وطالب القوت لا يقدر على الفكر والذكر إلا قدرة مدخولة بشغل والمكفي هو القادر) وليس هذا من حظوظ الدنيا فإن أخذ الكفاية عن الدنيا على نية التقوي على سلوك سبيل الدين كان ذلك كفاية، وهذه إحدى فوائد المال المشار إليها في الإجمال (ولذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا) تقدم قريبا .

(وقال) - صلى الله عليه وسلم - (كاد الفقر أن يكون كفرا) تقدم مرارا (أي الفقر مع الاضطرار مما لا بد منه) فهذا هو والذي يكاد أن يكون كفرا (وإن كان المطلوب فوق الحاجة) الضرورية (أو كان المطلوب قدر الحاجة، ولكن لم يكن المقصود الاستعانة به على سلوك سبيل الدين فحالة الفقر أفضل وأصلح) في حقه (لأنهم استويا في الحرص وحب المال، واستويا في أن كل واحد منهما ليس يقصد به الاستعانة على طريق الدين، واستويا في أن كل واحد منهما ليس يتعرض لمعصية بسبب الفقر والغنى، ولكن افترقا بأن الواجد يأنس بما وجده فيتأكد حبه في قلبه) ويطمئن (إلى الدنيا والفاقد المضطر يتجافى قلبه عن الدنيا وتكون الدنيا عنده كالسجن الذي يبغي الخلاص منه مهما استوت الأمور كلها وخرج عن الدنيا رجلان أحدهما أشد ركونا إلى الدنيا) أي: ميلا إليها (فحاله أشد لا محالة إذ يلتفت قلبه إلى الدنيا ويستوحش من الآخرة بقدر [ ص: 294 ] تأكد أنسه بالدنيا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: إن روح القدس) جبريل - عليه السلام - (نفث في روعي) أي: ألقى فيه (أحبب ما أحببت فإنك مفارقه) وعش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به. رواه الشيرازي في الألقاب من حديث سهل بن سعد نحوه، ورواه الطبراني في الأصغر والأوسط من حديث علي، وقد تقدم في آخر الباب السابع من كتاب العلم .

(وهذا تنبيه على أن فراق المحبوب شديد فينبغي أن تحب من لا يفارقك) أبدا (وهو الله تعالى ولا تحب من يفارقك (ولو بعد حين (وهو الدنيا، فإنك إذا أحببت الدنيا كرهت لقاء الله، فيكون قدومك بالموت على ما تكرهه وفراقك لما تحبه، وكل من فارق محبوبا فيكون أذاه في فراقه بقدر حبه) له (وقدر أنسه به) وألفته (معه وأنس الواجد للدنيا بالدنيا أكثر من أنس الفاقد لها، وإن كان حريصا عليها) وملتفتا لتحصيلها (فإذا قد انكشف بهذا التحقيق أن الفقر هو الأشرف والأفضل والأصلح لكافة الخلق إلا في موضعين أحدهما غنى مثل غنى عائشة) - رضي الله عنها - (يستوي عنده الوجود والعدم فيكون الوجود) مع هذا الحال (مزيدا له) في حاله (إذ يستفيد به) حينئذ (أدعية الفقراء والمساكين وجمع هممهم) وتوجهات بواطنهم .

وفيه فضيلة ظاهرة (والثاني الفقر عن مقدار الضرورة) الماسة (فإن ذلك يكاد أن يكون كفرا) كما ورد به الخبر (فلا خير فيه) أي: في هذا الكفر أو في هذا الفقر (بوجه من الوجوه إلا إذا كان وجوده يبقي حياته ثم يستعين بقوته وحياته على الكفر) أو ما يفضي إليها (و) على (المعاصي) أو ما يفضي إليها (ولو مات جوعا لكانت معاصيه أقل فالأصلح له أن يموت جوعا ولا يجد ما يضطر إليه أيضا .

فهذا تفصيل القول في الغنى والفقر، ويبقى النظر في فقير حريص متكالب على طلب المال ليس له هم سواه، وفي غني هو دونه في الحرص على حفظ المال ولم يكن تفجعه بفقد المال لو فقده) بسرقة أو تفريق أو غير ذلك (كتفجع الفقير بفقده، فهذا في محل النظر) والتأمل (والأظهر) من القولين (أن بعدهما عن الله تعالى بقدر قوة تفجعهما بفقد المال وقربهما) من الله تعالى (بقدر ضعف تفجعهما بفقده، والعلم عند الله تعالى فيه) والله الموفق .




الخدمات العلمية