الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذا التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة ، وجهل بسنة الله تعالى والعمل بموجب سنة الله تعالى مع الاتكال على الله عز وجل : دون الأسباب لا يناقض التوكل ، كما ضربناه مثلا في الوكيل بالخصومة من قبل ولكن الأسباب تنقسم إلى ظاهرة ، وإلى خفية ، فمعنى التوكل الاكتفاء بالأسباب الخفية عن الأسباب الظاهرة ، مع سكون النفس إلى مسبب السبب لا إلى السبب .

، فإن قلت ما : قولك في القعود في البلد بغير كسب أهو حرام ، أو مباح ، أو مندوب ، فاعلم أن ذلك ليس بحرام لأنه كفعل ؛ صاحب السياحة في البادية إذا لم يكن مهلكا نفسه ، فهذا كيف كان لم يكن مهلكا نفسه حتى يكون فعله حراما ، بل لا يبعد أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب ، ولكن قد يتأخر عنه ، والصبر ممكن إلى أن يتفق ولكن لو أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه ففعله ذلك حرام وإن فتح باب البيت وهو بطال غير مشغول بعبادة فالكسب والخروج أولى له ، ولكن ليس فعله حراما إلا أن يشرف على الموت ، فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب وإن كان مشغول القلب بالله غير مستشرف إلى الناس ، ولا متطلع إلى من يدخل من الباب ، فيأتيه برزقه ، بل تطلعه إلى فضل الله تعالى واشتغاله بالله فهو أفضل ، وهو من مقامات التوكل ، وهو أن يشتغل بالله تعالى ولا يهتم برزقه ؛ فإن الرزق يأتيه لا محالة وعند هذا يصح ما قاله بعض العلماء ، وهو : أن العبد لو هرب من رزقه لطلبه ، كما لو هرب من الموت لأدركه وأنه لو سأل الله تعالى أن لا يرزقه لما استجاب ، وكان عاصيا ، ولقال له : يا جاهل ، كيف أخلقك ولا أرزقك ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما اختلف الناس في كل شيء إلا في الرزق والأجل ، فإنهم أجمعوا على أن لا رازق ، ولا مميت إلا الله تعالى وقال : صلى الله عليه وسلم : " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ، ولزالت بدعائكم الجبال " وقال عيسى : عليه السلام : انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ، ولا تدخر ، والله تعالى يرزقها يوما بيوم ، فإن قلتم : نحن أكبر بطونا فانظروا إلى الأنعام كيف قيض الله تعالى لها هذا الحق للرزق وقال أبو يعقوب السوسي المتوكلون تجري أرزاقهم على أيدي العباد بلا تعب منهم ، وغيرهم مشغولون مكدودون وقال بعضهم : العبيد كلهم في رزق الله تعالى ولكن ، بعضهم يأكل بذل كالسؤال ، وبعضهم بتعب وانتظار كالتجار ، وبعضهم بامتهان كالصناع ، وبعضهم بعز كالصوفية يشهدون العزيز ، فيأخذون رزقهم من يده ، ولا يرون الواسطة .

التالي السابق


(فإذا التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة، وجهل بسنة الله تعالى والعمل بموجب سنة الله تعالى مع الاتكال على الله -عز وجل- دون الأسباب لا يناقض) أصل (التوكل، كما ضربناه مثلا للوكيل بالخصومة من قبل) ذلك، (ولكن الأسباب تنقسم إلى ظاهرة، وإلى خفية، فمعنى التوكل الاكتفاء بالأسباب الخفية عن الأسباب الظاهرة، مع سكون النفس إلى مسبب السبب) الخفي (لا إلى السبب، فإن قلت: فما قولك في القعود في البلد بغير كسب أهو حرام، أو مباح، أو مندوب، فاعلم أن ذلك ليس بحرام؛ لأن صاحب السياحة في البوادي إذا لم يكن مهلكا نفسه كما تقدم، فهذا الذي هو قاعد في البلد كيف يكون مهلكا نفسه حتى يكون فعله حراما، بل لا يبعد) هذا (أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب، ولكن قد يتأخر عنه، والصبر ممكن إلى أن يتفق) وصوله (ولكن لو أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه ففعله ذلك حرام) ؛ لأنه تسبب لإهلاك النفس، نظرا لظاهر الشرع، وكان هذا لعموم المتوكلين وإلا فقد نقل صاحب القوت عن بعضهم قال: قلت لبعض السلف: لو أن عبدا دخل بيتا وطين عليه بابا، ولا يعلم به أحد أكان رزقه يأتيه، فقال: نعم، فقلت: ومن أين يأتيه؟ فقال: من حيث يأتيه ملك الموت (وإن فتح باب البيت وهو بطال غير مشغول بعبادة) من ذكر وقراءة ومراقبة وغيرها من أنواعها (فالكسب والخروج) إلى الناس ومعاملتهم (أولى له، ولكن ليس فعله) ذلك (حراما إلى أن يشرف على الموت، فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال) إن لم يمكنه الكسب (والكسب) إن كان مطيقا له، (وإن كان مشغول القلب بالله غير [ ص: 477 ] مستشرف إلى الناس، ولا متطلع إلى من يدخل إلى الباب، فيأتيه برزقه، بل تطلعه إلى فضل الله تعالى) مع كمال الحال وغلبة الأنس (واشتغاله بالله فهو أفضل، وهو من) جملة (مقاسات التوكل، وهو أن يشتغل بالله تعالى) بذكر وفكر ومراقبة (ولا يهتم برزقه؛ فإن الرزق) مضمون (يأتيه لا محالة) حتى يظهر له ملك الموت؛ فحينئذ ينقطع عنه رزق الدنيا، ويدخل في رزق الآخرة، وإليه يشير كلام أكثر الشيوخ في معنى التوكل، فمن كانت مشاهدته في القسم المعلوم سقط عنه جملة من الهموم، واستراح العباد من أذاه، وشغل عنهم بخدمة مولاه (وعند هذا يصح ما قاله بعض العلماء، وهو: أن العبد لو هرب من رزقه لطلبه، كما لو هرب من الموت لأدركه) ، ولفظ القوت: ويقال لو هرب العبد من رزقه لأدركه في وقته، كما لو هرب من الموت لأدركه، هكذا هو في موضع آخر، كما روينا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو هرب أحدكم من رزقه لأدركه رزقه، كما لو هرب من الموت لأدركه أجله، " (وأن لو سأل الله تعالى أن لا يرزقه لما استجاب له، وكان) في سؤاله ذلك (عاصيا، ولقال له: يا جاهل، كيف أخلقك ولا أرزقك) ، نقله صاحب القوت، ويؤيد الأول ما ورد في الخبر: "إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله" رواه الطبراني، والبيهقي من حديث أبي الدرداء، ورجاله ثقات، وصححه الحافظ ابن حجر، وفي رواية لأبي نعيم في الحلية، عنه: "إن الرزق ليطلب العبد أكثر طلبا للعبد من أجله، وقال: -صلى الله عليه وسلم- في الرجل الذي أتاه فناوله ثمرة، وقال: له خذها: ولو لم تأتها لأتتك"، وتقدم هذا للمصنف، ألا ترى أنه قال: لأتته الثمرة وهي لا تسعى بنفسها، ولكن يستسعى إليها بظرفها يدفعها إليك، فكذلك الرزق على تصريفين: رزق طلبته فتلقاه، ورزق يطلبك فيلقاك، وما لقيك فقد لقيته. وفي خبر آخر: "لكل عبد رزق لا محالة، " ويروى: "لكل عبد رزق هو آكله، وأثر هو واطئه، وحتف هو قاتله" .

وأما القول الثاني: فروي عن سهل من قوله ولفظه: "إن العبد سأل الله أن لا يرزقه ما استجاب له أبدا، " ويقال له: اسكت يا أحمق، لو لم أرد أن أرزقك ما خلقتك، أنا الذي خلقتك لا بد أن أرزقك، كما خلقتك (ولذلك قال ابن عباس) رضي الله عنه (اختلف الناس في كل شيء إلا في الرزق والأجل، فإنهم أجمعوا على أن لا رازق، ولا مميت إلا الله تعالى) كذا في القوت (وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا، ولزالت بدعائكم الجبال") هكذا هو في القوت .

قال العراقي: تقدم قريبا بدون هذه الزيادة التي في آخره، فرواه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة من حديث معاذ بن جبل بإسناد فيه لين: "لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور، ولزالت بدعائكم الجبال"، رواه البيهقي في الزهد من رواية وهيب المكي مرسلا، دون قوله: لمشيتم على البحور، وقال: هذا منقطع. انتهى .

قلت: ورواه ابن السني من حديث معاذ أيضا، كما رواه محمد بن نصر، وعندهما زيادة: "ولو خفتم الله حق مخافته لعلمتم العلم الذي ليس معه جهل، ولكن لا يبلغ ذلك أحد، قيل: يا رسول الله، ولا أنت؟ قال: ولا أنا، الله -عز وجل- أعظم من أن يبلغ أحد أمره كله، ورواه الحكيم الترمذي في النوادر بلفظ: "لو خفتم الله حق خيفته لعلمتم العلم الذي لا جهل معه، ولو عرفتم الله حق معرفته لزالت بدعائكم الجبال" (وقال عيسى -عليه السلام-) في معنى الحديث السابق (انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد، ولا تدخر، والله تعالى يرزقها يوما بيوم، فإن قلتم: نحن أكبر بطونا فانظروا إلى الأنعام) هي أكبر منكم بطونا (كيف قيض الله لها هذا الخلق للرزق) كذا في القوت .

ورواه أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا، عن سالم بن أبي الجعد، قال: قال عيسى -عليه السلام-: اعملوا لله ولا تعملوا إلى بطونكم، انظروا إلى هذا الطير يغدو ويروح، لا يحرث ولا يحصد، الله تعالى يرزقها، فإن قلتم: نحن أعظم بطونا من الطير، فانظروا إلى هذه الأباقر من الوحش والحمر تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد، الله يرزقها، اتقوا فضول الدنيا؛ فإن فضول الدنيا عند الله رجز" (وقال أبو يعقوب السوسي) ، من السوس بلد بالأهواز، ممن أخذ عن عبد الواحد بن زيد، وعنه أبو يعقوب النهرجوري: (المتوكلون تجري أرزاقهم على أيدي العباد بلا تعب منهم، وغيرهم مشغولون مكدودون) ولفظ القوت: "المتوكلون تجري أرزاقهم بعلم الله واختياره على يد خصوص عباده، بلا شغل ولا تعب، وغيرهم مشغولون مكدودون، (وقال بعضهم: العبيد كلهم في رزق الله تعالى، لكن بعضهم يأكل بذل كالسؤال، وبعضهم بتعب وانتظار كالتجار، وبعضهم بامتحان [ ص: 478 ] كالصناع، وبعضهم بعز كالصوفية يشهدون العزيز، فيأخذون رزقهم من يده، ولا يرون الواسطة) ، ولفظ القوت: "وقال بعض هذه الطائفة: العبيد كلهم يأكلون أرزاقهم من المولى، ثم يفترقون في المشاهدات، فمنهم من يأكل رزقه بذل، ومنهم من يأكل رزقه بامتهان، ومنهم من يأكل رزقه بانتظار، ومنهم من يأكل رزقه بلا مهنة ولا انتظار ولا ذلة، فأما الذين يأكلون أرزاقهم بالذل فالسؤال يشهدون أيدي الخلق، فيذلون لهم، والذين يأكلون أرزاقهم بانتظار، فالتجار ينتظر أحدهم نفاق سلعته فهو متعوب الخلق معذب بانتظاره، والذين يأكلون أرزاقهم بامتهان، فالصناع يأكل أحدهم رزقه بمهنته وكده، والذين يأكلون أرزاقهم بعز بغير مهنة، ولا انتظار، ولا ذل فالصوفية يشهدون العزيز، فيأخذون قسمهم من يده بعزة، وبه تم الكلام على الدرجة الثانية .

فإن قلت: فما المقاصد التي ترجح الدخول في الأسباب المظنونة، أو ترجح ترك الدخول فيها، فأقول يختلف ذلك باختلاف الأحوال، ولرجحان الدخول في الأسباب المظنونة أحوال، الحالة الأولى أنه لو ترك السبب 7 بمتعلق المتعلق بحاله ومقصده لاشتغل عن العبادة والذكر والفكر، ومقصود الشرع بالتوكل، والسبب فراغ القلب لذلك، فيكون الدخول في السبب فضيلة في حقه، قال الله تعالى: وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله ، فعرفنا جل جلاله أن إمداد الأولياء بالملائكة وسيلة لطمأنينة نفوسهم عند اضطراب طبع البشرية الذي لا يدخل تحت اختيار العبد، لكنه شاغل للقلب، مزاحم لذكر الله فطمن قلوبهم بما أمدهم به حراسة لقلوبهم عن نزغات النفس والعدو وسلب النصر عن الملائكة، وأضافه إلى نفسه؛ لأنه الفاعل على الحقيقة، فهكذا ينبغي أن تفهم مثل هذه الحالة .

الحالة الثانية: أن يكون إماما متبوعا، فيدخل في الأسباب، ويحمل في سفره الزاد، ويستعمل في مرضه الدواء؛ ليقتدي به في ذلك، وهو متعلق بالله تعالى في الباطن لا يلتفت إلى الوسائط، وهذه طريقة الأنبياء والعلماء والمشايخ .

الحالة الثالثة: رجل استوى عنده وجود الأسباب وعدمها فعدمها عنده كوجودها، ووجودها عنده كعدمها، فإن شاء تلبس بها؛ لأنه مشغول بالمسبب عن السبب، وإن شاء تركها لعلمه بقيام الحق عليه كفيلا، وإن للطفه بعبده أسبابا خفية، لا يطلع عليها العباد دون الأسباب الظاهرة، ولذلك ترجح ترك الدخول في الأسباب المظنونة بعكس هذه الأحوال؛ إذ من العباد من لا يتفرغ للعبادة إلا بترك الأسباب، وهو الأغلب فترجح الترك في حقهم، وهذه الحالة أسلم من الأولى، فكم عابد متعلق بالأسباب يظن أنه منقطع القلب عنها، فإذا انقطعت الأسباب أو ضعفت اضطرب قلبه، وانزعجت نفسه وظهر نقصه؛ لأنه كان يعتقد أن حياته بالله، وإن كانت هذه الحالة أيضا لا تخلو من غرور، فكم من عابد تارك للأسباب يعتقد أنه زاهد تقي وإن عرض عليه شيء من الأسباب مالت نفسه إليه، ورغبت لما كانت فيه من الزهد والتقوى، وإنما كان ذلك بسبب الفقر والعجز، فالامتحانات هي التي تخرج ما في النفوس من المكامن الجيدة، أو الردية، ولذلك رأى العلماء كل محنة منحة؛ لما فيها من النعمة بإظهار ما في نفوسهم من مكامن العدو حتى يلقى الله بقلب سليم عن غيره، ويقاس على ما قدمناه في جلب المنافع إزالة الضرر، وسيأتي الكلام على ذلك للمصنف في بيان أن ترك التداوي قد يحمد في بعض الأحوال، والله أعلم .




الخدمات العلمية