الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وجميع ما ورد من تفضيل أجر الصبر على أجر الشكر في الآيات والأخبار إنما أريد به هذه الرتبة على الخصوص ؛ لأن السابق إلى أفهام الناس من النعمة الأموال والغنى بها ، والسابق إلى الأفهام من الشكر أن يقول الإنسان : الحمد لله ، ولا يستعين بالنعمة على المعصية ، لا أن يصرفها إلى الطاعة . فإذا الصبر أفضل من الشكر أي الصبر الذي تفهمه العامة أفضل من الشكر الذي تفهمه العامة ، وإلى هذا المعنى على الخصوص أشار الجنيد رحمه الله حيث سئل عن الصبر والشكر أيهما أفضل ؟ فقال : ليس مدح الغني بالوجود ، ولا مدح الفقير بالعدم وإنما المدح في الاثنين قيامهما بشروط ما عليهما ، فشرط الغنى يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتمتعها وتلذذها ، والفقير يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتقبضها وتزعجها ، فإذا كان الاثنان قائمين لله تعالى بشرط ما عليهما كان الذي آلم صفته ، وأزعجها ، أتم حالا ممن متع صفته ونعمها

والأمر على ما قاله وهو صحيح من جملة أقسام الصبر والشكر في القسم الأخير الذي ذكرناه ، وهو لم يرد سواه .

ويقال كان أبو العباس بن عطاء قد خالفه في ذلك : وقال : الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر ، فدعا عليه الجنيد فأصابه ما أصابه من البلاء من قتل أولاده ، وإتلاف أمواله ، وزوال عقله أربع عشرة سنة ، فكان يقول : " دعوة الجنيد أصابتني "، ورجع إلى تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر

ومهما لاحظت المعاني التي ذكرناها علمت أن لكل واحد من القولين وجها في بعض الأحوال ، فرب فقير صابر أفضل من غني شاكر ، كما سبق ورب غني شاكر أفضل من فقير صابر .

التالي السابق


(وجميع ما ورد من تفضيل أجر الصبر على أجر الشكر في الآيات والأخبار إنما أريد به هذه الرتبة على الخصوص؛ لأن السابق إلى أفهام الناس من النعمة الأموال والغنى بها، والسابق إلى الأفهام من الشكر أن يقول الإنسان: الحمد لله، ولا يستعين بالنعمة على المعصية، لا أن يصرفها إلى الطاعة. فإذا الصبر أفضل من الشكر أي الصبر الذي تفهمه العامة أفضل من الشكر الذي تفهمه العامة، وإلى هذا المعنى على الخصوص أشار) سيد الطائفة (الجنيد رحمه الله تعالى حيث سئل عن الصبر والشكر أيهما أفضل؟ فقال: ليس مدح الغنى بالوجود، ولا مدح الفقر بالعدم) . كذا في النسخ، ولفظ القوت: وقد سئل الجنيد عن غني شاكر وفقير صابر أيهما أفضل؟ قال: ليس مدح الغني بالوجود، ولا مدح الفقير بالعدم. (وإنما المدح في الاثنين قيامهما بشروط ما عليهما، فشرط الغني تصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتمنعها وتلذذها، والفقير تصحبه فيما عليه أشياء تؤلم صفته وتقبضها وتزعجها، فإذا كان الاثنان قائمين لله عز وجل بشرط ما عليهما كان لذي ألم صفته، وأزعجها، أتم حالة ممن منع صفته ونعمها) هذا نقل كلام الجنيد.

(والأمر على ما قاله وهو صحيح من جملة أقسام الصبر والشكر في القسم الأخير الذي ذكرناه، وهو لم يرد سواه. ويقال كان أبو العباس) أحمد بن محمد بن سهل (بن عطاء) الآدمي، من كبار مشايخ الصوفية وعلمائهم، وكان كبير الشأن، وهو من أقران الجنيد، وصحب إبراهيم المارستاني، مات سنة تسع وثلاثمائة (قد خالفه في ذلك) أي: فيما ذهب إليه من تفضيل الصابر على الشاكر (وقال: الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر، فدعا عليه الجنيد) فيما يقال (فأصابه ما أصابه من البلاء من قتل أولاده، وتلف أمواله، وزوال عقله أربع عشرة سنة، فكان يقول: "دعوة الجنيد أصابتني"، ورجع إلى تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر) . هكذا نقله صاحب القوت، وقال القشيري في الرسالة وقيل: إن يحيى بن معاذ الرازي [ ص: 160 ] تكلم ببلخ في تفضيل الغني على الفقير، وأعطى ثلاثين ألف درهم، فقال بعض المشايخ: لا بارك الله له في هذا المال، فخرج إلى نيسابور ووقع عليه اللص وأخذ ذلك المال منه .

(ومهما لاحظت المعاني التي ذكرناها علمت أن لكل واحد من القولين وجها في بعض الأحوال، فرب فقير صابر أفضل من غني شاكر، كما سبق) تقريره (ورب غني شاكر أفضل من فقير صابر) . قال صاحب القوت: فأما تفصيل التفضيل فعلى ثلاثة أوجه: أحدها أن المقامات أعلى من الأحوال، وقد يكون الصبر والشكر حالين، وقد يكونان مقامين، فمن كان مقامه الصبر، وكان حاله الشكر عليه، فهو أفضل لأنه صاحب مقام، ومن كان مقامه الشكر، وكان حاله الصبر عليه، فحاله مزيد لمقامه، فقد صار مزيدا للشاكر في مقامه .

الوجه الثاني من التفضيل المقربون أعلى مقاما من أصحاب اليمين، فالصابرون من المقربين أفضل من الشاكرين من أصحاب اليمين، والشاكرون والمقربون أفضل من الصابرين من أصحاب اليمين، فإن قيل فإن كان الشاكر والصابر من المقربين فأيهما أفضل عندك؟ فقد قلنا إن اثنين لا يتفقان في مقام من كل وجه لانفراد الوجه بمعاني لطائف اللطيفة بمثل ما انفردت الوجوه بلطيفة الصفة، مع تشابه الصفات، واشتباه الأدوات، وأفضلهما حينئذ أعرفهما، لأنه أحبهما إليه تعالى، وأقربهما منه، وأحسنهما يقينا؛ لأن اليقين أعز ما أنزل الله عز وجل. ثم قال: وجه آخر من بيان التفضيل نقول: إن الصبر عما يوجب الشكر أفضل، وإن الشكر على ما يوجب الصبر أفضل، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، تفسيره أن الصبر عن حظ النفس، وعن التنعم والترفه أفضل إن كان عبدا حاله النعمة، فالصبر عن النعيم والغنى مقام في المعرفة، وهو أفضل لأن فيه الزهد المجمع على تفضيله. ونقول إن الشكر على الفقر والبلاء والمصائب أفضل إن كان عبدا حاله الجهد والبلاء، فالشكر عليه مقام له في المعرفة فهو حينئذ أفضل لأن فيه الرضا المتفق على فضله .

وقال في موضع آخر من كتابه: ومن الناس من يقول إن الصبر أفضل من الشكر، وليس يمكن بينهما تفضيل عند أهل التحصيل من قبل أن الشكر مقام جملة من الموقنين، والترجيح بين جماعة على جماعة لا يصح من قبل تفاوتهم في اليقين والمشاهدات؛ لأن بعض الصابرين أفضل من بعض الشاكرين بفضل معرفته، وحسن صبره، وخصوص الشاكرين أفضل من عموم الصابرين، لحسن يقينه، وعلو شهادته. ولكن تفصيل ذلك من طريق الأحوال والمقامات إنا نقول، والله أعلم، إن الصبر عن النعيم أفضل لأن فيه الزهد والخوف، وهما أعلى المقامات، وإن الشكر على المكاره أفضل لأن فيه البلاء والرضا، وإن الصبر على الشدائد والضراء أفضل من الشكر على النعم والسراء من قبل أنه أشق على النفس، وإن الصبر مع حال الغنى والمقدرة أن يعصى بذلك أفضل من الشكر على النعم من قبل أن الصبر عن المعاصي بالنعم أفضل من الطاعة لمن جاهد نفسه فيها، فإذا شكر على ما يصير عليه فقد صار البلاء عنده نعمة، وهذا أفضل لأنها مشاهدة المقربين، وإذا صبر عما يشكر عليه من النعم كان أفضل لأنها حال الزاهدين .

وفي الخبر: "نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل"، يعني الأقرب شبها بنا، فالأقرب. فرفع أهل البلاء إليه، ووصف نفسه به، وجعلهم الأمثل فالأمثل منه، فمن كان به صلى الله عليه وسلم أمثل كان هو الأفضل، فقد كان صلى الله عليه وسلم شاكرا على شدة بلائه، وكذلك الشاكر من الصابرين يكون أفضل لشكره على البلاء؛ إذ هو الأمثل والأقرب إلى وصف الأنبياء، وكل مقام من مقامات اليقين يحتاج إلى صبر وإلى شكر وأحدهما لا يتم إلا بالآخر لأن الصبر يحتاج إلى شكر عليه ليكمل، والشكر يحتاج إلى صبر عليه ليستوجب المزيد، وقد قرن الله تعالى بينهما ووصف المؤمنين بهما، فقال: إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ، اهـ. وكلام القوت ربما أفرط بعض الصوفية، وقال: الفقير الشاكر أفضل من الغني الشاكر .




الخدمات العلمية