الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومهما تأملت الناس كلهم وجدتهم يشكون ويتألمون من أمور وراء هذه الثلاث مع أنها وبال عليهم ، ولا يشكرون نعمة الله في هذه الثلاث ولا يشكرون نعمة الله عليهم في الإيمان الذي به وصولهم إلى النعيم المقيم ، والملك العظيم بل البصير : ينبغي أن لا يفرح إلا بالمعرفة واليقين والإيمان بل نحن نعلم من العلماء من لو سلم إليه جميع ما دخل تحت قدرة ملوك الأرض من المشرق إلى المغرب من أموال وأتباع وأنصار وقيل له : خذها عوضا عن علمك بل عن عشر عشير علمك لم يأخذه وذلك لرجائه أن نعمة العلم تفضي به إلى قرب الله تعالى في الآخرة بل لو قيل له : لك في الآخرة ما ترجوه بكماله فخذ هذه اللذات في الدنيا بدلا عن التذاذك بالعلم في الدنيا وفرحك به ، لكان لا يأخذه لعلمه بأن لذة العلم دائمة لا تنقطع ، وباقية لا تسرق ولا ، تغصب ، ولا ينافس فيها ، وأنها صافية لا كدورة فيها ، ولذات الدنيا كلها ناقصة ، مكدرة مشوشة لا يفي مرجوها بمخوفها ، ولا ، لذتها بألمها ولا فرحها بغمها هكذا كانت إلى الآن ، وهكذا تكون ما بقي من الزمان إذ ما خلقت لذات الدنيا إلا لتجلب بها العقول الناقصة وتخدع ، حتى إذا انخدعت وتقيدت بها أبت عليها واستعصت كالمرأة الجميل ظاهرها تتزين للشاب الشبق الغبي حتى إذا تقيد بها قلبه استعصت عليه واحتجبت عنه فلا يزال معها في تعب قائم ، وعناء دائم ، وكل ذلك باغتراره بلذة النظر إليها في ، لحظة ولو عقل وغض البصر واستهان بتلك اللذة سلم جميع عمره فهكذا وقعت أرباب الدنيا في شباك الدنيا وحبائلها ولا ينبغي أن نقول إن المعرض عن الدنيا متألم بالصبر عنها ، فإن المقبل عليها أيضا متألم بالصبر عليها وحفظها وتحصيلها ، ودفع اللصوص عنها ، وتألم المعرض يفضي إلى لذة في الآخرة وتألم المقبل يفضي إلى الألم في الآخرة فليقرأ المعرض عن الدنيا على نفسه قوله تعالى : " ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون فإذا إنما انسد طريق الشكر على الخلق لجهلهم بضروب النعم الظاهرة ، والباطنة ، والخاصة ، والعامة

فإن قلت : فما علاج هذه القلوب الغافلة حتى تشعر بنعم الله تعالى فعساها تشكر ؟ فأقول : أما القلوب البصيرة فعلاجها التأمل فيما رمزنا إليه من أصناف نعم الله تعالى العامة وأما القلوب البليدة التي لا تعد النعمة نعمة إلا إذا خصتها أو شعرت بالبلاء معها فسبيله أن ينظر أبدا إلى من دونه ويفعل ما كان يفعله بعض الصوفية إذ كان كل يوم يحضر دار المرضى والمقابر والمواضع التي تقام فيها الحدود فكان يحضر دار المرضى ليشاهد أنواع بلاء الله تعالى عليهم ثم يتأمل في صحته وسلامته فيشعر قلبه بنعمة الصحة عند شعوره ببلاء الأمراض ويشكر الله تعالى ويشاهد الجناة الذين يقتلون وتقطع أطرافهم ويعذبون بأنواع العذاب ليشكر الله تعالى على عصمته من الجنايات ومن تلك العقوبات ، ويشكر الله تعالى على نعمة الأمن ويحضر المقابر فيعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى أن يردوا إلى الدنيا ولو يوما واحدا أما من عصى الله تعالى فليتدارك ، وأما من أطاع فليزد في طاعته . فإن يوم القيامة يوم التغابن فالمطيع مغبون إذ يرى جزاء طاعته فيقول : كنت أقدر على أكثر من هذه الطاعات فما أعظم غبني إذ ضيعت بعض الأوقات في المباحات ، وأما العاصي فغبنه ظاهر فإذا شاهد المقابر ، وعلم أن أحب الأشياء إليهم : أن يكون قد بقي لهم من العمر ما بقي له فيصرف بقية العمر إلى ما يشتهي أهل القبور العود لأجله ليكون ذلك معرفة لنعم الله تعالى في بقية العمر ، بل في الإمهال في كل نفس من الأنفاس ، وإذا عرف تلك النعمة شكر بأن يصرف العمر إلى ما خلق العمر لأجله ، وهو التزود من الدنيا للآخرة فهذا علاج هذه القلوب الغافلة لتشعر بنعم الله تعالى ،

فعساها تشكر . وقد كان الربيع بن خثيم مع تمام استبصاره يستعين بهذه الطريق تأكيدا للمعرفة فكان قد حفر في داره قبرا فكان يضع غلا في عنقه ، وينام في لحده ، ثم يقول رب ارجعون لعلي أعمل صالحا ، ثم يقوم ويقول يا ربيع قد أعطيت ما سألت فاعمل قبل أن تسأل الرجوع فلا ترد

ومما ينبغي أن تعالج به القلوب البعيدة عن الشكر أن تعرف أن النعمة إذا لم تشكر زالت ولم تعد ؛ ولذلك كان الفضيل بن عياض رحمه الله : يقول عليكم بملازمة الشكر على النعم ، فقل نعمة زالت عن القوم فعادت إليهم وقال بعض السلف : النعم وحشية فقيدوها بالشكر وفي الخبر : ما عظمت نعمة الله تعالى على عبد إلا كثرت حوائج الناس إليه ، فمن تهاون بهم عرض تلك النعمة للزوالوقال الله سبحانه : وتعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فهذا تمام هذا الركن

.

التالي السابق


(ومهما تأملت الناس كلهم وجدتهم يشكون ويتألمون من أمور وراء هذه الثلاث) وهي: الأمن والصحة والقوت (مع أنها وبال عليهم، ولا يشكرون نعمة الله عليهم في الإيمان الذي به وصولهم إلى النعيم المقيم، والملك العظيم) الذي لا يفنى (فإن البصير) أي: صاحب البصيرة (ينبغي أن لا يفرح إلا بالمعرفة واليقين والإيمان) فإنها من أفضل النعم الباطنة. (بل نحن نعلم من العلماء من لو سلم إليه جميع ما دخل تحت قدرة ملوك الأرض من المشرق إلى المغرب من أموال) وأعراض (وأتباع وأنصار وقيل له: خذها عوضا عن علمك) ومعرفتك (بل عن عشر عشير علمك لم يأخذه) ولم يقبله (وذلك لرجائه أن نعمة العلم تفضي به إلى قرب الله سبحانه وتعالى في الآخرة) وما ذكر في عوضه فكله فان ولا يقربه إلى جوار الله تعالى، (بل لو قيل له: لك في الآخرة ما ترجوه بكماله فخذ هذه اللذات في الدنيا بدلا عن التذاذك بالعلم في الدنيا وفرحك به، لكان لا يأخذه لعلمه بأن لذة العلم دائمة لا تنقطع، وباقية لا تسرق ولا تغصب، ولا ينافس فيها، وإنها صافية لا كدورة فيها، ولذات الدنيا كلها ناقصة ومكدرة ومشوشة، لا يفي مرجوها بمخوفها، ولا ألمها بلذاتها، ولا فرحها بغمها) فإنها إن حلت أوحلت أو جلت أوجلت أو كست أوكست .

(هكذا رؤي) من أول الزمان (إلى الآن، وهكذا يكون ما بقي الزمان) ودار الملوان (إذ ما خلقت لذات الدنيا إلا لتجلب بها العقول الناقصة وتخدع، حتى إذا انخدعت وتقيدت بها أبت عليها) وامتنعت (واستعصت) فهي (كالمرأة الجميل ظاهرها تتزين للشاب الشبق) الكثير الشهوة (الغبي) الغافل عن العواقب (حتى إذا تقيد بها قلبه) وعلق بها باطنه (استصعبت عليه) وجمحت (واحتجبت عنه) ولم تواصله (فلا يزال معها في تعب قائم، وعناء دائم، وكل ذلك لاغتراره بلذة النظر إليها في لحظته، ولو عقل وغض البصر واستهان بتلك اللذة سلم جميع عمره) في ماله وعرضه وجسده. (فهكذا وقعة أرباب الدنيا في شباك الدنيا وحبائلها) وخدعها (ولا ينبغي أن تقول إن المعرض عن الدنيا متألم بالصبر عنها، فإن المقبل عليها أيضا متألم بالصبر عليها و) على (حفظها وتحصيلها، ودفع اللصوص عنها، وتألم المعرض) عنها (يفضي إلى لذة في الآخرة) وهي القرب من جوار الله تعالى، (وتألم) المقبل عليها ( يفضي إلى ألم في [ ص: 134 ] الآخرة) وهو البعد عن جوار الله تعالى (فليقرأ المعرض عن الدنيا على نفسه قوله تعالى: " ولا تهنوا ") أي: لا تضعفوا (في ابتغاء القوم) أي: طلبهم ومقاتلتهم لإعلاء كلمة الحق ( إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ) وهو إشارة إلى تلك اللذة .

(فإذا إنما انسد طريق الشكر على الخلق لجهلهم بضروب النعم الظاهرة، والباطنة، والخاصة، والعامة) وبانسداد طريق الشكر حرموا طريق المزيد، وأورثهم ذلك النقصان أبدا. (فإن قلت: فما علاج هذه القلوب الغافلة حتى تشعر بنعم الله تعالى فعساها تشكر؟ فأقول: أما القلوب البصيرة فعلاجها التأمل فيما رمزنا إليه من أصناف نعم الله تعالى العامة) المبذولة على الخلق، (وأما القلوب) الجامدة (البليدة التي لا تعد النعمة نعمة إلا إذا خصصها أو شعر بالبلاء معها فسبيله أن ينظر أبدا إلى من هو دونه) في أمور الدنيا (ويفعل ما كان يفعله بعض) السادة (الصوفية إذ كان يحضر كل يوم دار المرضى) وهي المارستان (والمقابر والمواضع التي تقام فيها الحدود) الشرعية (فكان يحضر دار المرضى ليشاهد أنواع بلاء الله تعالى عليهم ثم يتأمل في صحته وسلامته) من تلك البلايا (فيشعر قلبه بنعمة الصحة عند شعوره ببلاء الأمراض و) كان يحضر المواضع التي تقام فيها الحدود (يشاهد الجناة) هم الجانون على أنفسهم (الذين يقتلون) قصاصا (وتقطع أطرافهم) في السرقة (ويعذبون بأنواع العذاب) في حد الخمر والقذف، وغير ذلك، أو من طريق السياسة (ليشكر الله تعالى على عصمته) وحفظه (من الجنايات) الشرعية (ومن تلك العقوبات، ويشكر الله تعالى على نعمة الأمن) حيث لا يطالبه أحد بدم أو ذمة أو غير ذلك. (و) كان (يحضر المقابر فيعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى أن يردوا إلى الدنيا ولو يوما واحدا) كما ورد ذلك في الأخبار (أما من عصى الله فليتدارك، وأما من أطاع الله فليزد في طاعته. وأن يوم القيامة) هو (يوم التغابن) كما سماه الله تعالى في كتابه: "ذلك يوم التغابن". (فالمطيع مغبون إذ يرى جزاء طاعته فيقول: كنت أقدر على أكثر من هذه الطاعات فما أعظم غبني) وخسارتي (إذ ضيعت بعض الأوقات في المباحات، وأما العاصي فغبنه ظاهر) يرى غيره يحسن الجزاء على أعماله، وهذا قد ضيع عمره في الغفلة والعصيان، فلا أغبن منه. (فإذا شاهد المقابر، وعلم أن أحب الأشياء إليهم) أي: إلى أصحاب المقابر (أن يكون قد بقي لهم من العمر ما بقي له فيصرف بقية العمر إلى ما يشتهي أهل القبور العود) إلى الدنيا (لأجله ليكون ذلك معرفة لنعم الله تعالى في بقية العمر، بل في الإمهال في كل نفس من الأنفاس، وإذا عرف تلك النعمة شكر بأن يصرف العمر إلى ما خلق لأجله، وهو التزود من الدنيا إلى الآخرة) كما هو حقيقة الشكر عند العارفين .

(فهذا علاج هذه القلوب الغافلة لتشعر بنعم الله تعالى، فعساها تشكر. وكان الربيع بن خثيم) الثوري الكوفي الفقيه الزاهد (مع تمام استبصاره يستعين بهذه الطريق تأكيدا للمعرفة) الحاصلة (له فكان قد حفر في داره قبرا فكان يضع غلا في عنقه، وينام في لحده، ثم يقول) هذه الآية. ( رب ارجعون لعلي أعمل صالحا ، ثم يقوم ويقول) مخاطبا لنفسه (يا ربيع قد أعطيت ما سألت فاعمل قبل أن تسأل الرجوع فلا ترد) . (ومما ينبغي أن تعالج به [ ص: 135 ] القلوب البعيدة عن الشكر أن تعرف أن النعمة إذا لم تشكر زالت ولم تعد؛ ولذلك قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: عليكم بملازمة الشكر على النعم، فقل نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم) نقله صاحب القوت. (وقال بعض السلف: النعم وحشية فقيدوها بالشكر) نقله صاحب القوت. (وفي الخبر: ما عظمت نعمة الله على عبد إلا كثرت حوائج الناس إليه، فمن تهاون بهم عرض تلك النعمة للزوال) . قال العراقي: رواه ابن عدي وابن حبان في الضعفاء من حديث معاذ بن جبل بلفظ: إلا عظمت مؤنة الناس إليه، فمن لم يحمل تلك المؤنة... الحديث. ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عباس وقال: إنه موضوع على حجاج الأعور، انتهى .

قلت: حديث معاذ رواه أيضا أبو سعيد السمان في مشيخته، وأبو إسحاق المستملي في معجمه، والبيهقي وضعفه، والخطيب وابن النجار، وفيه أحمد بن معدان العبدي، قال أبو حاتم: مجهول، والحديث الذي رواه باطل. ورواه الشيرازي في الألقاب عن عمر بن الخطاب موقوفا، ورواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج من حديث عائشة بلفظ: إلا اشتدت عليه مؤنة الناس. وتقدم في كتاب ذم البخل والمال بلفظ: من عظمت. وتقدم الكلام عليه هناك فراجعه .

(وقال الله سبحانه: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) قيل: لا يغير نعمة عليهم حتى يغيروها بتضييع الشكر، فيعاقبهم بالتغير، والوجه الآخر: لا يغير ما بهم من عقوبة حتى يغير معاصيهم بالتوبة. فذكر بذلك السبب الأول من حكمه ثم ذكر السبب الثاني من حكمته، وهو مسبب الأسباب بمشيئته وحكمته. (فهذا تمام هذا الركن) الثاني، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية