الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وفعل الله تعالى يسمى اختيارا بشرط أن لا يفهم من الاختيار إرادة بعد تحير وتردد فإن ذلك في حقه محال وجميع الألفاظ المذكورة في اللغات لا يمكن أن تستعمل في حق الله تعالى إلا على نوع من الاستعارة والتجوز وذكر ذلك لا يليق بهذا العلم ويطول القول فيه .

فإن قلت : فهل تقول إن العلم ولد الإرادة والإرادة ولدت القدرة والقدرة ولدت الحركة وأن كل متأخر حدث من المتقدم فإن قلت ذلك فقد حكمت بحدوث شيء لا من قدرة الله تعالى وإن أبيت ذلك فما معنى ترتب البعض من هذا على البعض ، فاعلم أن القول بأن بعض ذلك حدث عن بعض جهل محض سواء عبر عنه بالتولد أو بغيره بل حوالة جميع ذلك على معنى الذي يعبر عنه بالقدرة الأزلية وهو الأصل الذي لم يقف كافة الخلق عليه إلا الراسخون في العلم ، فإنهم وقفوا على كنه معناه ، والكافة وقفوا على مجرد لفظه مع نوع تشبيه بقدرتنا وهو بعيد عن الحق ، وبيان ذلك يطول ولكن بعض المقدورات مترتب على البعض في الحدوث ترتب المشروط على الشرط ، فلا تصدر من القدرة الأزلية إرادة إلا بعد علم ولا علم إلا بعد حياة ولا حياة إلا بعد محل الحياة وكما لا يجوز أن يقال الحياة تحصل من الجسم الذي هو شرط الحياة فكذلك في سائر درجات الترتيب ، ولكن بعض الشروط ربما ظهرت للعامة وبعضها لم يظهر إلا للخواص المكاشفين بنور الحق ، وإلا فلا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا بالحق واللزوم وكذلك جميع أفعال الله تعالى ، ولولا ذلك لكان التقديم والتأخير عبثا يضاهي فعل المجانين تعالى الله عن قول الجاهلين علوا كبيرا ، وإلى هذا أشار قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق فكل ما بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب وحق لازم لا يتصور أن يكون إلا كما حدث وعلى هذا الترتيب الذي وجد فما تأخر متأخر إلا لانتظار شرطه ، والمشروط قبل الشرط محال والمحال لا يوصف بكونه مقدورا فلا يتأخر العلم عن النطفة إلا لفقد شرط الحياة ولا تتأخر عنها الإرادة بعد العلم إلا لفقد شرط العلم ، وكل ذلك منهاج الواجب وترتيب الحق ليس في شيء من ذلك لعب واتفاق بل كل ذلك بحكمة وتدبير وتفهيم ذلك عسير ، ولكنا نضرب لتوقف المقدور مع وجود القدرة على وجود الشرط مثالا يقرب مبادئ الحق من الأفهام الضعيفة وذلك بأن نقدر إنسانا محدثا قد انغمس في الماء إلى رقبته فالحدث لا يرتفع عن أعضائه وإن كان الماء هو الرافع وهو ملاق له فقدر القدرة الأزلية حاضرة ملاقية للمقدورات متعلقة بها ملاقاة الماء للأعضاء ، ولكن لا يحصل بها المقدور كما لا يحصل رفع الحدث بالماء انتظارا للشرط وهو غسل الوجه ، فإذا وضع الواقف في الماء وجهه على الماء عمل الماء في سائر أعضائه وارتفع الحدث فربما يظن الجاهل أن الحدث ارتفع عن اليدين برفعه عن الوجه ؛ لأنه حدث عقيبه ، إذ يقول كان الماء ملاقيا ولم يكن رافعا والماء لم يتغير عما كان فكيف حصل منه ما لم يحصل من قبل ، بل حصل ارتفاع الحدث عن اليدين عند غسل الوجه فإذا ، غسل الوجه هو الرافع للحدث عن اليدين وهو جهل يضاهي ظن من يظن أن الحركة تحصل بالقدرة والقدرة بالإرادة والإرادة بالعلم . وكل ذلك خطأ ، بل عند ارتفاع الحدث عن الوجه ارتفع الحدث عن اليد بالماء الملاقي لها لا بغسل الوجه ، والماء لم يتغير واليد لم تتغير ولم يحدث فيهما شيء ، ولكن حدث وجود الشرط فظهر أثر العلة ، فهكذا ينبغي أن تفهم صدور المقدورات عن القدرة الأزلية مع أن القدرة قديمة والمقدورات حادثة ، وهذا قرع باب آخر لعالم آخر من عوالم المكاشفات ، فلنترك جميع ذلك فإن مقصودنا التنبيه على طريق التوحيد في الفعل فإن الفاعل بالحقيقة واحد فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد ولم نقدر على أن نذكر من بحار التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد ، واستيفاء ذلك في عمر نوح محال كاستيفاء ماء البحر بأخذ القطرات منه ، وكل ذلك ينطوي تحت قول لا إله إلا الله وما أخف مؤنته على اللسان وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب وما أعز حقيقته ولبه عند العلماء الراسخين في العلم فكيف عند غيرهم .

التالي السابق


(وفعل الله تعالى يسمى اختيارا بشرط أن لا يفهم من الاختيار إرادة بعد تحير وتردد فإن ذلك في حقه محال) لأنه أحدي الذات وأحدي الصفات وأمره واحد وعلمه بنفسه وبالأشياء واحد فلا يصح لديه تردد ولا إمكان حكمين مختلفين بل لا يمكن غير ما هو المعلوم المراد في نفسه فالاختيار الإلهي إنما هو بين الجبر والاختيار المفهومين للناس، وجميع الألفاظ المذكورة في اللغات لا يمكن أن تستعمل في حق الله تعالى إلا على نوع من الاستعارة والتجوز إذا كانت حقائقها توهم ما لا يليق بذاته تعالى .

(وذكر ذلك لا يليق بهذا العلم ويطول القول فيه فإن قلت: فهل تقول إن العلم ولد الإرادة والإرادة ولدت القدرة والقدرة ولدت الحركة وإن كل متأخر حدث من متقدم فإن قلت ذلك) واتخذته مذهبا (فقد حكمت بحدوث شيء من قدرة الله تعالى وذلك باطل وإن أبيت ذلك فما معنى ترتيب البعض من هذا على البعض، فاعلم أن القول بأن بعض ذلك حدث عن بعض جهل محض سواء عبر عنه بالتولد أو غيره) والقول بالتولد باطل بل لا يصدر منا فعل من أفعالنا إلا وهو موجود بقدرته على ما قدرته مشيئته ويدل على ذلك قوله تعالى: تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها والقول بالتولد هو قول ثمامة المعتزلي فإنه زعم أن الأفعال المتولدة لا يقدر عليها أحد إذ لا فاعل لها عنده، والجواب أنه لو جاز ثبوت فعل لا فاعل له ولا قادر قدر على إحداثه لم ينكر أن يكون ذلك حكم سائر الأفعال، فلا يكون في الفعل دليل على إثبات فاعل ولا صانع قادر قدر على إحداثه لم ينكر أن يكون ذلك حكم سائر الأفعال فلا يكون في الفعل دليل على إثبات فاعل ولا صانع قادر، كما أنه لو جاز حدوث جسم لا من محدث لم ينكر حدوث جميع الأجسام لا من محدث أحدثها، ولم يكن حينئذ في حدوث الأجسام دلالة على محدثها .

(بل حوالة جميع ذلك على المعنى الذي يعبر عنه بالقدرة الأزلية وهي الصفة التي لأجلها يكون القادر قادرا وهو الأصل الذي لم تقف كافة الخلق عليه إلا الراسخون في العلم، فإنهم وقفوا على كنه معناه، والكافة) من غيرهم (وقفوا على مجرد لفظه مع نوع تشبيه بقدرتنا) على قياس الغائب على الشاهد (وهو بعيد عن الحق، وبيان ذلك يطول) وقد سبقت مباحث القدرة في شرح الكتاب الثاني من هذه الكتب .

(ولكن بعض المقدورات مترتبة على بعض في الحدوث ترتب المشروط على الشرط، فلا تصدر من القدرة إرادة إلا بعد علم ولا علم إلا بعد حياة ولا حياة إلا بعد محل الحياة) فوجود الحياة شرط في وجود القدرة والعلم والإرادة، وحدوث القدرة والإرادة فيما ليس بحي محال، وكل نوع من الإدراك مختص بالحي، وما لا حياة فيه لا يصح أن يكون مدركا (وكما لا يجوز أن يقال أن الحياة تحصل من الجسم الذي هو شرط الحياة فكذلك في سائر درجات الترتيب، ولكن بعض الشروط مما ظهرت للعامة وبعضها لم تظهر إلا للخواص المكاشفين بنور الحق، وإلا فلا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا بالحق واللزوم) فهمه من فهمه وجهله من جهله .

(وكذلك جميع أفعال الله تعالى، ولولا ذلك لكان التقديم والتأخير عبثا) لا فائدة فيه (يضاهي فعل المجانين تعالى الله عن قول الجاهلين علوا كبيرا، وإلى هذا أشار قوله تعالى: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق فكل ما بين السموات والأرض حادث) بقدرة القادر (على ترتيب واجب وحق لازم لا يتصور أن يكون إلا كما حدث وعلى هذا الترتيب الذي وجد) وهذا أحد الوجوه في تصحيح قول المصنف الآتي: ليس في الإمكان أبدع مما كان (فما تأخر متأخر إلا لانتظار شرطه، والمشروط قبل الشرط محال والمحال لا يوصف بكونه [ ص: 424 ] مقدورا) فإن كل ما استحال وجوده لم يوصف أحد إلا بالقدرة عليه وكل ما صح حدوثه وتوهم كونه ولم يستحل في العقل وجوده فالله قادر على إيجاده وإحداثه .

(فلا يتأخر العلم عن النطفة إلا لفقد شرط الحياة ولا تتأخر عنها الإرادة بعد العلم إلا لفقد شرط العلم، وكل ذلك مناهج الواجب وترتيب الحق ليس في شيء من ذلك لعب واتفاق بل كل ذلك بحكمة) بالغة (وتدبير) خفي، (وتفهيم ذلك عسير، ولكنا نضرب لتوقف المقدور مع وجود القدرة على وجود الشرط مثالا يقرب مبادي الحق من الأفهام الضعيفة) القاصرة عن المدارك الخفية .

(وذلك بأن تقدر إنسانا محدثا قد انغمس في ماء إلى رقبته فالحدث لا يرتفع عن أعضائه وإن كان الماء هو الرافع للحدث وهو ملاق له فقدر القدرة الأزلية حاضرة وملاقية للمقدورات متعلقة بها ملاقاة الماء للأعضاء، ولكن لا يحصل بها المقدور كما لا يحصل رفع الحدث بالماء انتظارا للشرط وهو غسل الوجه، فإذا وضع الواقف في الماء وجهه على الماء عمل الماء في سائر الأعضاء وارتفع الحدث فربما يظن الجاهل أن الحدث ارتفع عن اليدين برفعه عن الوجه; لأنه حدث عقيبه، إذ يقول كان الماء ملاقيا ولم يكن رافعا والماء لم يكن يتغير عما كان فكيف حصل منه ما لا يحصل من قبل، بل حصل ارتفاع الحدث عن اليدين عند غسل الوجه، فإذا غسل الوجه هو الرافع للحدث عن اليد وهو جهل يضاهي ظن من يظن أن الحركة تحصل بالقدرة والقدرة بالإرادة والإرادة بالعلم .

وكل ذلك خطأ، بل عند ارتفاع الحدث عن الوجه ارتفع الحدث عن اليد بالماء الملاقي له لا بغسل الوجه، والماء لم يتغير واليد لم تتغير ولم يحدث فيهما شيء، ولكن حدث وجود الشرط فظهر أثر العلة، فهكذا ينبغي أن تفهم صدور المقدورات عن القدرة الأزلية مع أن القدرة قديمة والمقدورات حادثة، وهذا قرع باب لعالم آخر من عوالم المكاشفات، فلنترك جميع ذلك فإن مقصودنا التنبيه على طريق التوحيد في الفعل) وهو الذي يبنى عليه التوكل (فالفاعل في الحقيقة واحد فهو) القائم بنفسه وهو (المخوف والمرجو عليه التوكل والاعتماد) وإليه التفويض والإسناد (ولم نقدر أن نذكر من بحار التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد، واستيفاء ذلك في عمر نوح) - عليه السلام - والمراد به العمر الطويل (محال كاستيفاء ماء البحر بأخذ القطرات منه، وكل ذلك منطو وتحت قولك لا إله إلا الله) لاشتماله على سائر مقامات التوحيد (وما أخف مؤنته على اللسان) إذ هو أربعة عشر حرفا (وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب) سواء كان المنفي معبودا أو مقصودا أو موجودا (وما أعز حقيقته ولبه عند العلماء الراسخين فكيف عند غيرهم) ممن لا رسوخ له في علوم الحقيقة .




الخدمات العلمية