الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلت : الناس يكفلون اليتيم ؛ لأنهم يرونه عاجزا بصباه وأما هذا فبالغ قادر على الكسب ، فلا يلتفتون إليه ، ويقولون هو مثلنا فليجتهد لنفسه فأقول : إن كان هذا القادر بطالا فقد صدقوا فعليه الكسب ، ولا معنى للتوكل في حقه فإن التوكل مقام من مقامات الدين يستعان به على التفرغ لله تعالى ، فما للبطال والتوكل وإن كان مشتغلا بالله ملازما لمسجد ، أو بيت ، وهو مواظب على العلم والعبادة ، فالناس لا يلومونه في ترك الكسب ، ولا يكلفونه ذلك ، بل اشتغاله بالله تعالى يقرر حبه في قلوب الناس حتى يحملوا إليه فوق كفايته ، وإنما عليه أن لا يغلق الباب ، ولا يهرب إلى جبل من بين الناس وما رئي إلى الآن عالم ، أو عابد استغرق الأوقات بالله تعالى ، وهو في الأمصار فمات جوعا ، ولا يرى قط ، بل لو أراد أن يطعم جماعة من الناس بقوله : لقدر عليه ، فإن من كان لله تعالى كان الله : عز وجل له ومن اشتغل بالله عز وجل ألقى الله حبه في قلوب الناس ، وسخر له القلوب ، كما سخر قلب الأم لولدها فقد دبر الله تعالى الملك والملكوت تدبيرا كافيا لأهل الملك والملكوت .

فمن شاهد هذا التدبير وثق بالمدبر واشتغل به وآمن ونظر إلى مدبر الأسباب لا إلى الأسباب نعم ما دبره تدبيرا يصل إلى المشتغل به الحلو والطيور السمان ، والثياب الرقيقة ، والخيول النفيسة على الدوام لا محالة ، وقد يقع ذلك أيضا في بعض الأحوال ، لكن دبره تدبيرا ، يصل إلى كل مشتغل بعبادة الله تعالى في كل أسبوع قرص شعير أو حشيش يتناوله لا محالة ، والغالب أنه يصل أكثر منه ، بل يصل ، ما يزيد على قدر الحاجة والكفاية ، فلا سبب لترك التوكل إلا رغبة النفس في التنعم على الدوام ، ولبس الثياب الناعمة ، وتناول الأغذية اللطيفة وليس ذلك من طريق الآخرة وذلك قد لا يحصل بغير اضطراب ، وهو في الغالب أيضا ليس يحصل مع الاضطراب ، وإنما يحصل نادرا ، وفي النادر أيضا قد يحصل بغير اضطراب ، فأثر الاضطراب ضعيف عند من انفتحت بصيرته ، فلذلك لا يطمئن إلى اضطرابه ، بل إلى مدبر الملك والملكوت تدبيرا لا يجاوز عبدا من عباده رزقه ، وإن سكن إلا نادرا ندورا عظيما يتصور مثله في حق المضطرب ، فإذا انكشفت هذه الأمور ، وكان معه قوة في القلب ، وشجاعة في النفس أثمر ما قاله الحسن البصري : رحمه الله ؛ إذ قال : وددت أن أهل البصرة في عيالي وأن ، حبة بدينار .

وقال وهيب بن الورد لو كانت السماء نحاسا ، والأرض رصاصا ، واهتممت برزقي لظننت أني مشرك .

فإذا فهمت هذه الأمور فهمت أن التوكل مقام مفهوم في نفسه ، ويمكن الوصول إليه لمن قهر نفسه وعلمت أن من أنكر أصل التوكل وإمكانه أنكره عن جهل فإياك أن تجمع بين الإفلاسين الإفلاس ؛ عن وجود المقام ذوقا والإفلاس ، عن الإيمان به علما .

التالي السابق


(فإن قلت: الناس يكفلون اليتيم؛ لأنهم يرونه عاجزا بصباه) عن الاضطراب، (وأما هذا فبالغ قادر على الكسب، فلا يلتفتون إليه، ويقولون هو مثلنا) وقوته كقوتنا (فليجتهد لنفسه) ، وليكتسب (فأقول: إن كان هذا القادر بطالا) [ ص: 495 ] فارغا (فقد صدقوا فعليه الكسب، ولا معنى للتوكل في حقه) ولا للسؤال (فإن التوكل مقام) عظيم (من جملة مقامات الدين) ومنشؤه من خالص اليقين (يستعان به على التفرغ لله تعالى، فما للبطال والتوكل) ليس هو من رجاله، (وإن كان مشتغلا بالله ملازما لمسجد، أو بيت، وهو مواظب على العلم والعبادة، فالناس لا يلومونه في ترك الكسب، ولا يكلفونه ذلك، بل اشتغاله بالله تعالى يقر رحبه في قلوب الناس) ويثبته (حتى يحملوا إليه مؤن كفايته، وإنما عليه أن يغلق الباب، ولا يهرب إلى جبل من بين الناس) من المشاهد (وما رئي إلى الآن عالم، أو عابد استغرق الأوقات بالله تعالى، وهو من الأمصار فمات جوعا، ولا يرى قط، بل أراد أن يطعم جماعة من الناس بقوله: لقدر عليه، فإن من كان لله -عز وجل- كان الله -عز وجل- له) ، ومن كان همه هما واحدا كفاه الله همه .

(ومن اشتغل بالله -عز وجل- وأحبه ألقى الله حبه في قلوب الناس، وسخر له القلوب، كما سخر قلب الأم لولدها) ، وقد جاء في الخبر: "إذا أحب الله عبدا ألقى حبه في قلوب الناس"، وفي لفظ: "قذف حبه في قلوب الملائكة، ثم يقذفه في قلوب الآدميين (فقد دبر الله تعالى الملك والملكوت تدبيرا كافيا لأهل الملك والملكوت) لقوله تعالى: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض الآية، (فمن شاهد هذا التدبير) البليغ وثق بالمدبر، واشتغل به، وآمن (ونظر إلى مدبر الأسباب لا إلى الأسباب) ، ولا يصح مقام من مقامات اليقين إلا بإسقاط التدبير مع الله، وتعلقه بمقام التوكل والرضا أبين من تعلقه بسائر المقامات، فمن لازم من ألقى قياده إلى الله تعالى، واعتمد في كل أموره عليه الاستسلام لجريان المقادير (نعم ما دبره تدبيرا يصل إلى المشتغل به الحلوى والطيور السمان، والثياب الرفيعة، والخيول النفيسة) المرفهة (على الدوام لا محالة، وقد يقع ذلك أيضا في بعض الأحوال، لكن دبره تدبيرا، يصل إلى كل مشغول بعبادة الله تعالى في كل أسبوع قرص شعير أو حشيش يتناوله لا محالة، والغالب أن يصل أكثر منه، بل، ويصل ما يزيد على قدر الحاجة والكفاية، فلا سبب لترك التوكل إلا رغبة النفس في التنعم على الدوام، ولبس الثياب الناعمة، وتناول الأغذية اللطيفة) في كل وقت (وليس ذلك من طريق الآخرة) إلا من قهر نفسه، وملكها، وأراد بما ذكر إظهار ما من الله به عليه بشرط أن يكون وجوده وعدمه عنده سيين، (وذلك قد لا يحصل بغير اضطراب، وهو في الغالب أيضا ليس يحصل مع الاضطراب، وإنما يحصل نادرا، وفي النادر أيضا قد يحصل بغير اضطراب، فأثر الاضطراب ضعيف عند من انفتحت بصيرته، فلذلك لا يطمئن إلى اضطرابه، بل إلى مدبر الملك والملكوت تدبيرا لا يجاوز عبدا من عباده رزقه، وإن سكن إلا نادرا ندورا عظيما يتصور مثله في حق المضطرب، فإذا انكشفت هذه الأمور، وكان معه قوة في القلب، وشجاعة في النفس أثمر ما قاله الحسن البصري -رحمه الله تعالى-؛ إذ قال: وددت أن أهل البصرة في عيالي، وإن حبة بدينار) نقله صاحب القوت، قال: وهذا من نهاية التوكل، وليس ذلك إلا في تسليم الأحكام، والرضا بها، كيف جرت بهم؛ لأن هذا قد جاوز العقول، فلعل يطعمهم الموت (وقال) أبو أمية (وهيب بن الورد) المكي يقال: اسمه عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- (لو كانت السماء نحاسا، والأرض رصاصا، واهتممت برزقي لظننت أني مشرك) .

ولفظ القوت: وروينا عن سفيان، عن وهيب بن الورد: لو أن السماء لم تمطر، والأرض لم تنبت، ثم اهتممت بشيء من رزقي لظننت أني كافر، وفي رواية عن وهيب: منذ أربعين سنة لو كانت السماء رصاصا، والأرض نحاسا لم أهتم برزقي، ولو [ ص: 496 ] اهتممت به لظننت أني مشرك، وقال بعض أهل المعرفة: قد صدق وهيب، لو أن الهم داخل عليه في تصديقه كان الشك قد نقص تصديقه، وكان يكون شاكا؛ لأنه ليس من صحة التصديق، والصدق الاهتمام بالرزق؛ لأن الرزق جزء من مائة جزء قد وقع تصديق المؤمن به، فمن لم يصح تصديقه في هذا الجزء الواحد لم يصح في سائر الأجزاء، قال: والتصديق مقتضى السكون والطمأنينة، والنفس تدعو إلى الحركة طمعا في استعجال أخذ الأسباب، فمن كان محققا لتصديقه بالسكون انصرف عن إجابة داعي النفس بالحركة إلى السكون، الذي يقتضي منه التصديق، وشغل قلبه بالعمل في تصحيح تصديقه، (فإذا فهمت هذا فهمت أن التوكل مقام) شريف (مفهوم في نفسه، ويمكن الوصول إليه إن قهر نفسه) وروضها بالتدريج على الصبر على المكاره (وعلمت أن من أنكر أصل التوكل وإمكانه) إنما (أنكر عن جهل) به عنه، (فإياك أن تجمع بين الإفلاسين؛ إفلاس عن وجود المقام ذوقا، وإفلاس عن الإيمان به علما) ، أي: فإن لم تكن من الذائقين لهذا المقام فأقل الدرجات أن تكون من المصدقين له علما ومعرفة .




الخدمات العلمية