الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فأما معنى كون معرفة الله وصفاته وأفعاله وملكوت سماواته وأسرار ملكه أعظم لذة من الرياسة ، فهذا يختص بمعرفته من نال رتبة المعرفة وذاقها ، ولا يمكن إثبات ذلك عند من لا قلب له ؛ لأن القلب معدن هذه القوة ، كما أنه لا يمكن إثبات رجحان لذة الوقاع على لذة اللعب بالصولجان عند الصبيان ، ولا رجحانه على لذة شم البنفسج عند العنين ؛ لأنه فقد الصفة التي بها تدرك هذه اللذة ، ولكن من سلم من آفة العنة وسلم حاسة شمه أدرك التفاوت بين اللذتين ، وعند هذا لا يبقى إلا أن يقال : من ذاق عرف .

ولعمري طلاب العلوم وإن لم يشتغلوا بطلب معرفة الأمور الإلهية فقد استنشقوا رائحة هذه اللذة عند انكشاف المشكلات وانحلال الشبهات التي قوي حرصهم على طلبها فإنها أيضا معارف وعلوم ، وإن كانت معلوماتها غير شريفة شرف المعلومات الإلهية ، فأما من طال فكره في معرفة الله سبحانه وقد انكشف له من أسرار ملك الله ولو الشيء اليسير فإنه يصادف في قلبه عند حصول الكشف من الفرح ما يكاد يطير به ويتعجب من نفسه في ثباته واحتماله لقوة فرحه وسروره ، وهذا مما لا يدرك إلا بالذوق والحكاية فيه قليلة الجدوى .

فهذا القدر ينبهك على أن معرفة الله سبحانه ألذ الأشياء وأنه لا لذة فوقها .

ولهذا قال أبو سليمان الداراني إن لله عبادا ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة ، فكيف تشغلهم الدنيا عن الله ولذلك قال بعض إخوان معروف الكرخي له : أخبرني يا أبا محفوظ أي شيء هاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق ؟ فسكت فقال : ذكر الموت فقال : وأي شيء الموت فقال : ذكر القبر والبرزخ ، فقال : وأي شيء القبر ؟ فقال : خوف النار ورجاء الجنة ، فقال : وأي شيء هذا ؟ إن ملكا هذا كله بيده إن أحببته أنساك جميع ذلك ، وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا .

وفي أخبار عيسى عليه السلام : إذا رأيت الفتى مشغوفا بطلب الرب تعالى فقد ألهاه ذلك عما سواه .

ورأى بعض الشيوخ بشر بن الحارث في النوم فقال ما فعل أبو نصر التمار وعبد الوهاب الوراق فقال تركتهما الساعة بين يدي الله تعالى يأكلان ويشربان ، قلت : فأنت ؟ قال : علم الله قلة رغبتي في الأكل والشرب فأعطاني النظر إليه .

وعن علي بن الموفق قال : رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة فرأيت رجلا قاعدا على مائدة وملكان عن يمينه وشماله يلقمانه من جميع الطيبات ، وهو يأكل ورأيت رجلا قائما على باب الجنة يتصفح وجوه الناس ، فيدخل بعضا ويرد بعضا قال : ثم جاوزتهما إلى حديقة القدس فرأيت في سرادق العرش رجلا قد شخص ببصره ينظر إلى الله تعالى لا يطرف ، فقلت لرضوان : من هذا قال ؟ معروف الكرخي عبد الله لا خوفا من ناره ولا شوقا إلى جنته ، بل حبا له فأباحه النظر إليه إلى يوم القيامة .

وذكر أن الآخرين بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل ولذلك قال أبو سليمان من كان اليوم مشغولا بنفسه فهو غدا مشغول بنفسه ، ومن كان اليوم مشغولا بربه فهو غدا مشغول بربه .

وقال الثوري لرابعة ما حقيقة إيمانك ؟ قالت : ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا لجنته فأكون كالأجير السوء بل عبدته حبا له وشوقا إليه وقالت في معنى المحبة نظما :


أحبك حبين حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاكا     فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا     وأما الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراكا     فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

ولعلها أرادت بحب الهوى حب الله لإحسانه إليها وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة وبحبه لما هو أهل له الحب لجماله وجلاله الذي انكشف لها ، وهو أعلى الحبين وأقواهما .

التالي السابق


(فأما كون معرفة الله وصفاته وأفعاله وملكوت سمواته وأسرار ملكه أعظم لذة من الرياسة، فهذا يختص بمعرفته من نال رتبة المعرفة وذاقها، ولا يمكن إثبات ذلك عند من لا قلب له; لأن القلب معدن هذه القوة، كما أنه لا يمكن إثبات رجحان لذة الوقاع على لذة اللعب بالصولجان عند الصبيان، ولا رجحانه على شم البنفسج عند العنين; لأنه فقد الصفة التي بها تدرك هذه اللذة، ولكن من سلم من آفة العنة وسلمت حاسة شمه أدرك التفاوت بين اللذتين، وعند هذا لا يبقى إلا أن يقال: من ذاق عرف) وفي مفهومه: من لم يذق لم يعرف، كما قيل:


ولو يذوق عاذلي صبابتي صبا معي لكنه ما ذاقها

وفي أول قصيدة ابن عنين:


من ذاق طعم شراب القوم يدريه ومن دراه غدا بالروح يشريه



(ولعمري طلاب العلوم وإن لم يشتغلوا بطلب معرفة الأمور الإلهية فقد استنشقوا رائحة هذه اللذة عند انكشاف المشكلات وانحلال الشبهات التي قوي حرصهم على طلبها) والبحث عنها (فإنها أيضا معارف وعلوم، وإن كانت معلوماتهم غير شريفة شرف المعلومات الإلهية، فأما من طال فكره في معرفة الله سبحانه) وكثر مزاولته فيها، (وقد انكشف له من أسرار ملك الله ولو الشيء اليسير) والقدر القليل، (فإنه يصادف في قلبه عند حصول الكشف من الفرح) والارتياح (ما يكاد يطير به ويتعجب من نفسه في ثباته واحتماله لقوة فرحه وسروره، وهذا ما لا يدرك إلا بالذوق) العرفاني الذي هو أعلى مراتب الوجد، (والحكاية فيه قليلة الجدوى) أي: الفائدة .

(فهذا القدر ينبهك على أن معرفة الله سبحانه ألذ الأشياء وأنه لا لذة فوقها) ، وقد دل على ذلك كلام المشايخ (قال أبو سليمان الداراني) -رحمه الله تعالى-: (إن لله عبادا ليس يشغلهم عن الله خوفهم النار ولا رجاء الجنة، فكيف تشغلهم الدنيا عن الله) نقله صاحب القوت، (ولذلك قال بعض إخوان معروف) الكرخي -قدس سره- (له: أخبرني) عنك (يا أبا محفوظ) وهي كنية معروف، (أي شيء هاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق؟ فسكت فقال:) ، أي: ذلك البعض (ذكر الموت فقال: وأي شيء الموت فقال: ذكر القبر والبرزخ، قال: وأي شيء القبر والبرزخ؟ فقال: خوف النار ورجاء الجنة، فقال: وأي شيء هذا؟ إن ملكا هذا كله بيده إن أجبته أنساك جميع ذلك، وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا) نقله صاحب القوت وزاد فقال: وحدثت عن عبد الوهاب الحجبي قال: رأيت أحمد بن نصر الخزاعي في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: أدخلني عليه في داره وبسط لي حصيرا من لؤلؤ رطب عن يمينه وقال: يا أحمد، قتلت في وصبرت لي؟ فقلت: نعم يا رب، فقال: ها أنا إذا أنزل إليك حتى تنظر إلى وجهي جل جلال وجه ذي الجلال .

(وفي أخبار عيسى -عليه السلام: - إذا رأيت الغني مشغولا) ولفظ القوت: مستغرقا (بطلب الرب تعالى فقد ألهاه ذلك عما سواه) زاد في القوت: والمحب لله يحب النصب لله تعالى .

(ورأى بعض الشيوخ) أبا نصر (بشر بن الحارث) الحافي -قدس سره- (في النوم) ولفظ القوت: وحدثني بعض الأشياخ عن منصور الحربي وغيره أنه رأى بشر بن الحارث في النوم (فقال) فقلت له: (ما فعل أبو نصر التمار) هو عبد الملك بن عبد العزيز القشيري النسائي، ثقة عابد، مات سنة ثمان وعشرين ومائتين، وهو ابن إحدى وتسعين سنة روى له مسلم والنسائي (وعبد الوهاب) بن عبد الحكم بن نافع أبو الحسن (الوراق) البغدادي، ثقة مات سنة خمسين ومائتين، روى له أبو داود والترمذي والنسائي (قال تركتهما الساعة [ ص: 576 ] بين يدي الله يأكلان ويشربان، قلت: فأنت؟ قال: علم الله قلة رغبتي في الأكل والشرب فأعطاني النظر إليه) . كذا في القوت .

(وعن) أبي الحسن (علي بن الموفق) تقدم ذكره في كتاب الحج (قال: رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة فرأيت رجلا قاعدا على مائدة وملكان عن يمينه وشماله يلقمانه من جميع الطيبات، وهو يأكل ورأيت رجلا قائما على باب الجنة يتصفح وجوه الناس، فيدخل بعضا ويرد بعضا قال: ثم جاوزتهما إلى حظيرة القدس) ، وهو موضع في أعلى الجنة عن يمين العرش (فرأيت في سرادق العرش) أي: في الخيمة المحيطة به (رجلا قد شخص ببصره ينظر إلى الله تعالى لا يطرف، فقلت لرضوان: من هذا؟ فقال) هذا (معروف الكرخي عبد الله لا خوفا من ناره ولا شوقا إلى جنته، بل حبا له فأباحه الله النظر إليه إلى يوم القيامة . وذكر أن الآخرين بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل) نقله صاحب القوت قال: وهذا مقام الأبدال في الطريقين لا يقامون مقام أبدال الأنبياء إلا بعد صفاء اليقين وحسن المعرفة، فإن نصيبهم إلى الله نظرهم إليه فيجمع لهم بأول نظرة من النعيم والسرور ما لا يوصف جميع ما فوقه في الجنان كلها من اللذة والسرور والنعيم والحبور، وفي النظرة أضعافا مضاعفة لا يعرفها سواهم ولا يسع ذكرها إلا لهم، ولا يطلب بها أحد دونهم لا يسع ذكرها في كتاب ولا يجوز تسميتها بخطاب، إلا لأهلها السائلين عنها الطالبين لها، والراغبين فيها هي من سر الجبروت ونهاية الرغبوت، ولا يبلغون درج الصديقين ولا يعطون منازل الشهداء حتى تغلب محبة الله على قلوبهم في كل حال، فيتألهون إليه، ويذهلون به عن غيره وينسون في ذكره من سواه، هو مذكورهم بذكره ومأواهم بظله، فالمحبون لله هم المخلصون نفوسهم لوجهه حقا، فيعبدونه لأجله صرفا، وهم المقربون ونعيمهم في الجنان صرف ويمزج أهل المزج، وهم أصحاب اليمين كذلك كانوا في الدنيا يحسن علومهم بعلمهم، ويرتفع أعمالهم بمشاهدتهم ويجدون المزيد في نفوسهم بقربهم منه، كما بدأنا أول خلق نعيده ، وقد قال -عز وجل-: جزاء وفاقا ، أي: وافق أعمالهم جزاؤهم وقال: سيجزيهم وصفهم أي: يعطيهم غدا لوصفهم في الدنيا إنه حكيم عليم ، فمن كان في هذه الدار اليوم نعيمه طيبات الملك، فكذلك غدا يكون الملك نعيمه، ومن كان فيها نعيمه وروحه بالملك الطيب، فهذا غدا في مقعد صدق عنده (ولذلك قال أبو سليمان الداراني) -رحمه الله تعالى- (من كان اليوم مشغولا بنفسه فهو غدا مشغول بنفسه، ومن كان اليوم مشغولا بربه فهو غدا مشغول بربه) كذا في القوت .

(وقال) سفيان (الثوري) -رحمه الله تعالى- (الرابعة) ابنة إسماعيل العدوية البصرية العابدة رحمها الله تعالى، وكانت إحدى المحبين ماتت سنة 135، وكان الثوري يقعد بين يديها ويقول علمينا مما أفادك الله من طرائف الحكمة، وكانت تقول له: نعم الرجل أنت، لولا أنك تحب الدنيا، وقد كان الثوري زاهدا عالما إلا أنها كانت تجعل إيثار كتب الحديث والإقبال على الناس من أبواب الدنيا، وقال لها الثوري يوما: لكل عقد شريطة ولكل إيمان حقيقة و (ما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا لجنته فأكون كالأجير السوء إن خاف عمل) ، أو إذا أعطي عمل، (بل عبدته حبا له وشوقا إليه) ، وروى عنها حماد بن زيد أنها قالت: إني لأستحي أن أسال الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها فكان هذا جوابا; لأنه قال: سلني حاجتك . وخطبها عبد الواحد بن زيد فحجبته أياما حتى سئلت أن يدخل عليها، فقالت له: يا شهواني اطلب شهوانية مثلك، أي شيء رأيت في من آلة الشهوة . وخطبها محمد بن سليمان الهاشمي أمير البصرة على مائة ألف وقال: لي غلة عشرة آلاف في كل شهر أجعلها لك، فكتبت إليه: ما يسرني أنك لي عبد وإن كل مالك لي وإنك شغلتني عن الله طرفة عين، (و) قد (قالت في معنى المحبة) أبياتا (نظما) تحتاج إلى شرح حملها عنها أهل البصرة وغيرهم منهم سفيان الثوري وجعفر بن سليمان الضبعي وعبد الواحد بن زيد، وحماد بن زيد وهي هذه:


أحبك حبين حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراك
[ ص: 577 ] فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاك



وقد تكلم صاحب القوت على هذه الأبيات بكلام ساطع الأنوار يعرفه من رزقه وينكره من حرمه والمصنف -رحمه الله تعالى- أشار إلى زبدة كلامه، فلنورد كلامه أولا ثم كلام صاحب القوت، قال المصنف: (ولعلها أرادت بحب الهوى حب الله لإحسانه إليها وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة وبحبه لما هو أهل له الحب لجماله وجلاله الذي انكشف لها، وهو أعلى الحبين) ، فقد أشار بذلك إلى أن كلامها يدل على أن المحبة بهذا السبب أقوى الأسباب وأثبتها دواما، وأما صاحب القوت فقال: فأما قولها: حب الهوى وقولها: حب أنت أهل له، وتفرقتها بين الحبين فإنه يحتاج إلى تفصيل حتى يقف عليه من لا يعرفه ويخبره من لم يشهده، وفي تسميته ونعت وصفه إنكار من ذوي العقول ممن لا ذوق له منه ولا قدر له به، ولكنا نجمل ذلك وندل عليه من عرفه معنى حب الهوى أي رأيتك فأحببتك عن مشاهدة اليقين لا من خبر وسمع تصديق من طريق النعم والإحسان فتختلف محبتي إذا تغيرت الأفعال لاختلاف ذلك علي، ولكن محبتي من طريق العيان فقربت منك وهربت إليك فاشتغلت بك لما تفرغت لك، كما قال المحب:


فرغت قلبها اشتغالا بذكري وكذا كل فارغ مشغول



وعلى هذا المعنى قوله تعالى: وأصبح فؤاد أم موسى فارغا أي ملآن بذكره حتى فاض فكادت أن تظهره فتقول: هو ابني فعبر عن الملء بالفراغ من ضده لولا أن أولينا عليه بربطنا فكظمت، ولو لم تفعل لأظهرت، ولو أظهرته لقتل، وأما الحب الثاني الذي هو أهل له تعني حب التعظيم والإجلال لوجه العظيم ذي الجلال تقول: ثم إني مع ذلك لا أستحق على هذا الحب ولا أستأهل أن أنظر إليك في الآخرة على الكشف والعيان في محل الرضوان; لأن حبي لك لا يوجب لك جزاء عليه، بل يوجب على كل شيء مما لا أطيقه ولا أقوم بحقك فيه أبدا; إذ كنت قد أحببتك فلزمني خوف التقصير ووجب علي الحياء من قلة الوفاء والخوف لما تعرضت به من حبك; إذ ليس كمثلك شيء، كما قال المحب:


أصبحت صبا ولا أقول بمن خوفا لمن لا يخاف من أحد
إذا تفكرت في هواي له لمست رأسي هل طار عن جسدي

لولا أن الحب ينطق والشوق يقلق والوجد يحرق، فالحب لإيلام لغيبة النفس عنه والأنام تقول: فتفضلت علي بفضل كرمك وما أنت له أهل من تفضلك فأريتني وجهك عندك آخرا، كما أريتنيه اليوم عندي أولا، فلك علي ما تفضلت به في ذاك عندي في الآخرة ولا حمد لي في ذا ههنا ولا حمد لي في ذاك هناك; إذ كنت أنا وصلت إليها بك فأنت المحمود فيهما لأنك وصلتني بهما، فهذا الذي فسرناه هو وجد المحبين المحقين، وقد كانت تذكر الأنس في وجدها وترتفع إلى وصف معنى من الخلة في قولها السائر:


إني جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي



ومن قولها النادر في مقام الخلة:


وتخللت مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلا
فإذا ما انطلقت كنت حديثي وإذا ما سكت كنت الغليلا



وقد أهل ذلك لها كل من نقله عنها من العلماء ووصفوها به، فوصفنا من نعت المحبين بعض ما يصلح من معنى كلامها لأنا ظننا بقولها ذلك إن كان لها في المحبة قدم، ولا يسعنا أن نشرح في كتاب حقيقة كشف ما أجملناه ولا أن نفصل وصف ما ذكرناه، ومن لم يكن من المحبين كذلك حتى لا يدل بمحبته ولا يقتضي الجزاء عليها من محبوبه، ولا يوجب على حبيبه شيئا ; لأجل محبته فهو مخدوع بالمحبة ومحجوب بالنظر إليها، وإنما ذلك مقام الرجاء الذي ضده الخوف ليس من المحبة في شيء ولا تصح المحبة إلا بخوف المقت في المحبة . وقال بعض العارفين: ما عرفه من ظن أنه عرفه، ولا أحبه من توهم أنه أحبه . هذا كله كلام صاحب القوت .




الخدمات العلمية