الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما في الأعمال فأدبه أن لا يتواضع لغني لأجل غناه بل يتكبر عليه قال علي كرم الله وجهه : ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب الله تعالى ، وأحسن منه تيه الفقير على الغني ثقة بالله عز وجل فهذه رتبة وأقل منها أن لا يخالط الأغنياء ولا يرغب في مجالستهم ؛ لأن ذلك من مبادئ الطمع .

قال الثوري رحمه الله إذا خالط الفقير الأغنياء فاعلم أنه مراء ، وإذا خالط السلطان فاعلم أنه لص .

وقال بعض العارفين إذا خالط الفقير الأغنياء انحلت عروته فإذا طمع فيهم انقطعت عصمته فإذا سكن إليهم ضل .

وينبغي أن لا يسكت عن ذكر الحق مداهنة للأغنياء وطمعا في العطاء .

وأما أدبه في أفعاله لا يفتر بسبب الفقر عن عبادة ولا يمنع بذل قليل ما يفضل عنه ، فإن ذلك جهد المقل وفضله أكثر من أموال كثيرة تبذل عن ظهر غنى روى زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : درهم من الصدقة أفضل عند الله من مائة ألف درهم ، قيل : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف درهم فتصدق بها ، وأخرج رجل درهما من درهمين لا يملك غيرهما طيبة به نفسه فصار صاحب الدرهم أفضل من صاحب المائة ألف وينبغي أن لا يدخر مالا بل يأخذ قدر الحاجة ويخرج الباقي وفي الادخار ثلاث درجات : إحداها : أن لا يدخر إلا ليومه وليلته وهي درجة الصديقين ، والثانية : أن يدخر لأربعين يوما فإن ما زاد عليه داخل في طول الأمل وقد فهم العلماء ذلك من ميعاد الله تعالى لموسى عليه السلام : ففهم منه الرخصة في أمل الحياة أربعين يوما .

وهذه درجة المتقين . والثالثة : أن يدخر لسنته وهي أقصى المراتب وهي رتبة الصالحين ومن زاد في الادخار على هذا فهو واقع في غمار العموم خارج عن حيز الخصوص بالكلية ، فغنى الصالح الضعيف في طمأنينة قلبه في قوت سنته ، وغنى الخصوص في أربعين يوما ، وغنى خصوص الخصوص في يوم وليلة وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم نساءه على مثل هذه الأقسام فبعضهن كان يعطيها قوت سنة عند حصول ما يحصل، وبعضهن قوت أربعين يوما وليلة وهو قسم عائشة وحفصة .

التالي السابق


(وأما في أعماله فأدبه) وفي بعض النسخ وأما أدبه في أعماله (ألا يتواضع لغني لأجل غناه) فقد روى الديلمي من حديث أبي ذر: لعن الله فقيرا تواضع لغني من أجل ماله، من فعل ذلك منهم فقد ذهب ثلثا دينه، وروى البيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود: من دخل على غني فتضعضع له فقد ذهب ثلث دينه. وللطبراني في الصغير من حديث أنس: من تضعضع لغني لينال مما في يديه أسخط الله - عز وجل - (بل يتكبر عليه) لله تعالى إن كان ذلك الغني ممن يفتخر بغناه، فإن التكبر عليه حينئذ ربما يكون بمنزلة الصدقة، إذا كان الفقير واثقا بالله - عز وجل -

والمعنى فيه - والله أعلم - أن ينظر إلى زيهم وهيئاتهم بنظر الحقارة والإعراض ليصغر في عيونهم بذلك ما عظم في نفوسهم من أمر الدنيا، فليس المراد بالتكبر هنا معناه الظاهر الذي هو التطاول والتفاخر والتظاهر فهو من أكثف حجب القلب وأقوى صفات النفس .

(قال علي - كرم الله وجهه -: ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب الله، وأحسن منه تيه الفقير على الغني ثقة بالله تعالى) ، وقد رأى بعض الصوفية عليا - رضي الله عنه - في المنام وطلب أن يسمع منه شيئا فقال له ذلك، وقد تقدم .

(فهذه المرتبة وأقل منها ألا يخالط الأغنياء ولا يرغب في مجالستهم; لأن ذلك من مبادئ الطمع) والطباع تسرق العادات بالمجالسة فيورث ذلك بغض الفقر ومحبة الدنيا (قال) سفيان (الثوري) - رحمه الله تعالى - (إذا خالط الفقير الأغنياء فاعلم أنه مراء، وإذا خالط السلطان فاعلم أنه لص) ورواه أبو نعيم في الحلية، ورواه الديلمي من حديث أبي هريرة: إذا رأيت العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة فاعلم أنه لص. فقد تقدم في الأمر بالمعروف .

(وقال بعض العارفين إذا مال الفقير إلى الأغنياء انحلت عروته) أي: عروة فقره إذ بميله إليهم يبغض الفقر ويحب الدنيا (فإذا طمع [ ص: 296 ] فيهم انقطعت عصمته) أي: عصمة فقره بل تنكسر زجاجة زهده (فإذا سكن إليهم ضل) عن طريق الوصول إلى الله تعالى وصار ذلك السكون من أكثف الحجب وكان سهل التستري - رحمه الله تعالى - يقول: يلقي الله في قلب الفقير الرغبة في أبناء الدنيا والطمع فيهم حتى يخرج إليهم، ويلقي في قلوبهم المنع له، والجفاء عليهم يؤدبه بذلك لئلا يستحليه ويعتاده، فيرده بذلك إليه بعد أن منعه منهم، ثم يفتح له من عنده رزقا من حيث لا يحتسب الغني.

(ولا ينبغي أن يسكت عند ذكر الحق مداهنة للأغنياء وطمعا في العطاء) وهذا واجب، روى البيهقي في الشعب من قول ابن مسعود: من خضع لغني وضع له نفسه إعظاما له وطمعا فيما قبله ذهب ثلث مروءته وشطر دينه، (وأما أدبه في أفعاله فأن لا يفتر بسبب الفقر عن عبادة الله) - عز وجل - أي: لا يمنعه عنها; لأن الفقر أفرغ للشواغل فهو أزيد للعبادة (و) أن (لا يمنع ببذل قليل ما يفضل عنه، فإن ذلك جهد المقل) وهو أفضل الصدقات كما في الخبر (وفضله أكثر من أموال كثيرة تبذل عن ظهر غنى روى زيد بن أسلم) العدوي مولاهم التابعي المدني مرسلا (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: درهم من الصدقة أفضل عند الله من مائة ألف درهم، قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف فتصدق بها، وأخرج رجل درهما من درهمين لا يملك غيرهما طيبة بها نفسه فصار صاحب الدرهم أفضل من صاحب المائة الألف) قال العراقي: رواه النسائي من حديث أبي هريرة متصلا وتقدم في الزكاة ولا أصل له من رواية زيد بن أسلم مرسلا قلت: وكذلك رواه ابن حبان والحاكم، ورواه النسائي أيضا من حديث أبي ذر لفظهم جميعا: سبق درهم مائة ألف، رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق بهما ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف فتصدق بها.

(وينبغي ألا يدخر مالا بل يأخذ) منه (قدر الحاجة ويخرج الباقي) في سبيل الله تعالى، (وفي الادخار ثلاث درجات: إحداها: أن يدخر ليومه وليلته وهي درجة الصديقين، والثانية: أن يدخره لأربعين يوما ولا يزيد فإنما زاد عليه داخل في طول الأمل) وهو مذموم (وقد فهم العلماء ذلك) الحد (من ميعاد الله تعالى لموسى - عليه السلام -) إذ كان ميقاته أربعين ليلة (ففهم منه الرخصة في أمل الحياة أربعين يوما) ويأتي للمصنف في كتاب التوكل ما يرده (وهذه درجة المتقين. والثالثة: أن يدخر لسنته وهي أقصى المراتب) والدرجات في الرخصة (وهي رتبة الصالحين) من خواص المؤمنين (من زاد في الادخار على هذا) القدر (فهو واقع في غمار العموم) من المؤمنين (خارج من حيز الخصوص بالكلية، فغنى الصالح الضعيف في طمأنينة قلبه) ، وفقد يقينه (في قوت سنته، وغنى الخصوص في أربعين يوما، وغنى خصوص الخصوص في يوم وليلة) .

وقد قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - لنسائه على مثل هذه الأقسام فبعضهن كان يعطيها قوت سنة عند حصول ما يحصل، وبعضهن قوت أربعين يوما، وبعضهن يوما وليلة، منهن عائشة وحفصة والله الموفق .




الخدمات العلمية