الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان دواء الصبر وما يستعان به عليه .

اعلم أن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ، ووعد الشفاء فالصبر وإن كان شاقا أو ممتنعا فتحصيله ممكن بمعجون العلم والعمل ، فالعلم والعمل هما الأخلاط التي منها تركب الأدوية لأمراض القلوب كلها ، ولكن يحتاج كل مرض إلى علم آخر ، وعمل آخر ، وكما أن أقسام الصبر مختلفة ، فأقسام العلل المانعة منه مختلفة ، وإذا اختلفت العلل اختلف العلاج ، إذ معنى العلاج مضادة العلة وقمعها واستيفاء ذلك مما يطول ، ولكنا نعرف الطريق في بعض الأمثلة .

فنقول : إذا افتقر إلى الصبر عن شهوة الوقاع مثلا ، وقد غلبت عليه الشهوة بحيث ليس يملك معها فرجه أو يملك فرجه ، ولكن ليس يملك عينه أو يملك عينه ، ولكن ليس يملك قلبه ونفسه إذ ، تزال تحدثه بمقتضيات الشهوات ، ويصرفه ذلك عن المواظبة على الذكر والفكر والأعمال الصالحة ، فنقول قد قدمنا أن الصبر عبارة عن مصارعة باعث الدين مع باعث الهوى ، وكل متصارعين أردنا أن يغلب أحدهما الآخر ، فلا طريق لنا فيه إلا تقوية من أردنا أن تكون له اليد العليا : وتضعيف الآخر ، فلزمنا ههنا تقوية باعث الدين ، وتضعيف باعث الشهوة .

فأما باعث الشهوة ، فسبيل تضعيفه ثلاثة أمور :

أحدها أن تنظر إلى مادة قوتها ، وهي الأغذية الطيبة المحركة للشهوة من حيث نوعها ، ومن حيث كثرتها فلا بد ، من قطعها بالصوم الدائم مع الاقتصاد عند الإفطار على طعام قليل في نفسه ضعيف في جنسه ، فيحترز عن اللحم والأطعمة المهيجة للشهوة .

الثاني : قطع أسبابه المهيجة له في الحال ، فإنه إنما يهيج بالنظر إلى مظان الشهوة ، إذ النظر يحرك القلب ، والقلب يحرك الشهوة وهذا يحصل بالعزلة والاحتراز عن مظان وقوع البصر على الصور المشتهاة والفرار منها بالكلية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : النظرة سهم مسموم من سهام إبليس وهو سهم يسدده الملعون ولا ترس يمنع منه إلا تغميض الأجفان أو الهرب ، من صوب رميه فإنه إنما يرمي هذا السهم عن قوس الصور ، فإذا انقلبت عن صوب الصور لم يصبك سهمه .

الثالث تسلية : النفس بالمباح من الجنس الذي تشتهيه ، وذلك بالنكاح فإن كل ما يشتهيه الطبع ففي المباحات من جنسه ما يغني عن المحظورات منه ، وهذا هو العلاج الأنفع في حق الأكثر ، فإن قطع الغذاء يضعف عن سائر الأعمال ثم قد لا يقمع الشهوة في حق أكثر الرجال ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم ، له وجاء .

فهذه ثلاثة أسباب ، فالعلاج الأول وهو قطع الطعام يضاهي قطع العلف عن البهيمة الجموح وعن الكلب الضاري ليضعف فتسقط قوته الثاني يضاهي تغيب اللحم عن الكلب ، وتغييب الشعير عن البهيمة ، حتى لا تتحرك بواطنها بسبب مشاهدتها والثالث يضاهي تسليتها بشيء قليل مما يميل إليه طبعها ، حتى يبقى معها من القوة ما تصبر به على التأديب .

وأما تقوية باعث الدين فإنما تكون بطريقين : أحدهما إطماعه في فوائد المجاهدة وثمراتها في الدين والدنيا وذلك بأن يكثر فكره في الأخبار التي أوردناها في فضل الصبر ، وفي حسن عواقبه في الدنيا والآخرة ، وفي الأثر إن ثواب الصبر على المصيبة أكثر مما فات وأنه ، بسبب ذلك مغبوط بالمصيبة إذ فاته ما لا يبقى معه إلا مدة الحياة ، وحصل له ما يبقى بعد موته أبد الدهر .

التالي السابق


(بيان دواء الصبر وما يستعان به عليه)

(اعلم) هداك الله تعالى (أن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، ووعد الشفاء) روى أبو نعيم في الطب من حديث أبي هريرة أن الذي أنزل الداء أنزل معه الدواء، ورواه ابن السني والحاكم بلفظ: إن الذي أنزل الداء أنزل الشفاء، (فالصبر وإن كان شاقا) على النفس (أو ممتنعا فتحصيله ممكن بمعجون) مركب من [ ص: 34 ] (العلم والعمل، فالعلم والعمل هما الأخلاط التي منهما تركب الأدوية) النافعة (لأمراض القلوب كلها، ولكن يحتاج كل مرض إلى علم آخر، وعمل آخر، وكما أن أقسام الصبر مختلفة، فأقسام العلل المانعة منه مختلفة، وإذا اختلفت العلل اختلف العلاج، إذ معنى العلاج مضادة العلة وقمعها) لأن النفس إن كانت زكية، طاهرة، مهذبة الأخلاق، فينبغي أن يسعى لحفظها، وجلب مزيد قوة إليها، واكتساب زيادة صفاء لها، فإن كانت ناقصة عادمة الكمال والصفاء وجب العلاج بضد العلة المطلوب زوالها، فيعالج مرض الجهل بالعلم، ومرض البخل بالسخاء، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشر بالكف عن المشتهى تكلفا .

(واستيفاء ذلك مما يطول، ولكنا نعرف الطريق في بعض الأمثلة فنقول: إذا افتقر إلى الصبر عن شهوة الوقاع مثلا، وقد غلبت عليه بحيث لا يملك معها فرجه) في حال يقظته ونومه (أو يملك فرجه، ولكن ليس يملك عينه) بالتطلع (أو يملك عينه، ولكن ليس يملك قلبه ونفسه، إذ لا تزال تحدثه) في سره (بمقتضيات الشهوة، ويصرفه ذلك عن المواظبة على الذكر والفكر) والمراقبة (والأعمال الصالحة، فنقول) في علاجه (قد قدمنا أن الصبر عبارة عن مصارعة باعث الدين مع باعث الهوى، وكل متصارعين أردنا أن يغلب أحدهما الآخر، فلا طريق لنا فيه إلا تقوية من أردنا أن تكون له اليد العليا) أي: الغلبة (وتضعيف الآخر، فلزمنا ههنا تقوية باعث الدين، وتضعيف باعث الشهوة، فأما باعث الشهوة فسبيل تضعيفه ثلاثة أمور: أحدها أن تنظر إلى مادة قوتها، وهي الأغذية الطيبة اللذيذة المحركة للشهوة من حيث نوعها، ومن حيث كثرتها، فلابد من قطعها بالصوم الدائم مع الاقتصار عند الإفطار على طعام قليل في نفسه ضعيف في جنسه، فيحترز عن) تناول (اللحم) في المأكولات (و) عن (الأطعمة المهيجة للشهوة) في طبعها أو بملابسة الأبازير .

(الثاني: قطع أسبابه المهيجة له في الحال، فإنه إنما يهيج بالنظر إلى مظان الشهوة، إذ النظر يحرك القلب، والقلب يحرك الشهوة) من ذلك قولهم: من أدار ناظره أتعب خاطره. (وهذا يحصل) علاجه (بالعزلة) عن الناس مرة (والاحتراز عن مظان وقوع البصر على الصور) الجميلة (المشتهاة) بالطبع (والفرار منها بالكلية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس) رواه الحاكم والبيهقي من حديث حذيفة بلفظ: "النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه إيمانا يجد حلاوته في قلبه"، وروى الحكيم الترمذي في "النوادر" من حديث علي: "النظر إلى محاسن المرأة سهم من سهام إبليس، فمن صرف بصره عنها رزقه الله عبادة يجد حلاوتها"، وروى أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر : "نظر المؤمن في محاسن المرأة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها من خشية الله، ورجاء ما عنده، أتاه الله بذلك عبادة تبلغه لذتها"، وقد تقدم ذكر هذا الحديث مرارا .

(وهذا سهم يسدده الملعون ولا ترس يمنع منه) ويتترس به (إلا تغميض الأجفان، والهرب من صوب رميه) ، وقد روى الديلمي من حديث أبي هريرة يقول الله تعالى: "يا ابن آدم إن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبقهما عليه"، الحديث، (فإنه يرمي هذا السهم عن قوس الصور، فإذا انقلب عن صوب الصور ولم يصبك سهمه) وآمنت من شره .

(الثالث: تسلبه النفس بالمباحات من الجنس الذي يشتهيه، وذلك بالنكاح) مع حليلته، (فإن كل ما يشتهيه الطبع ففي المباحات من جنسه ما يغني عن المحظور منه، وهذا هو العلاج الأنفع) والدواء [ ص: 35 ] الأكبر (في حق الأكثر، فإن قطع الغذاء) مطلقا (يضعف عن سائر الأعمال) الصالحة التي تستدعي القوة، (ثم قد لا تقمع الشهوة في حق أكثر الرجال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:) يا أيها الناس (عليكم بالباءة) أي: النكاح، (فإن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء) . رواه الطبراني في الأوسط، والضياء من حديث أنس ، وقد تقدم في كتاب النكاح .

(فهذه ثلاثة أسباب، فالعلاج الأول وهو قطع الطعام يضاهي قطع العلف عن البهيمة الجموح) أي: العاصية عن التأديب (وعن الكلب الضاري) أي: اللهج يأكل لحم الصيد (ليضعف فتسقط قوته و) ، العلاج (الثاني يضاهي تغييب اللحم عن الكلب، وتغييب الشعير عن البهيمة، حتى لا تتحرك بواطنها بسبب مشاهدتها) بالعين والحس، (و) العلاج (الثالث يضاهي تسليتها بشيء قليل مما يميل إليه طبعها، حتى يبقى معها من القوة ما تصبر على التأديب) والرياضة .

(وأما تقوية باعث الدين فإنما يكون بطريقين: أحدهما إطماعه في فوائد المجاهدة وثمراتها في الدين والدنيا) ، والقدر الواجب منه تقويته بالوعد والوعيد أو بما رأيته من البواعث الحادثة المقوية له إلى أن يغلب وينتصر ويفوز بالخلع السنية الموعودة له، (وذلك بأن يكثر فكره في الأخبار التي أوردناها في فضل الصبر، وفي حسن عواقبه في الدنيا والآخرة، وفي الأثر أن ثواب الصبر على المصيبة أكثر مما فات، وأنه بسبب ذلك مغبوط بالمصيبة إذ فاته ما لا يبقى معه إلا مدة الحياة، وحصل له ما يبقى بعد موته أبد الدهر) ، كأنه يشير إلى أثر ابن عباس المتقدم أن: "من صبر على المصيبة عند الصدمة الأولى فله تسعمائة درجة" تبعا لصاحب القوت، وقد تقدم الكلام عليه، وأن المروي من حديثه على خلاف ذلك .




الخدمات العلمية