الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان تحريم السؤال من غير ضرورة وآداب الفقير المضطر فيه .

اعلم أنه قد وردت مناه كثيرة في السؤال وتشديدات وورد فيه أيضا ما يدل على الرخصة إذ قال صلى الله عليه وسلم للسائل حق ولو جاء على فرس وفي الحديث : ردوا السائل ولو بظلف محرق ولو كان السؤال حراما مطلقا لما جاز إعانة المتعدي على عدوانه والإعطاء إعانة ، فالكاشف للغطاء فيه أن السؤال حرام في الأصل وإنما يباح بضرورة أو حاجة مهمة قريبة من الضرورة فإن كان عنها فهو حرام وإنما قلنا : إن الأصل فيه التحريم ؛ لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة .

الأول : إظهار الشكوى من الله تعالى إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه وهو عين الشكوى ، وكما أن العبد المملوك لو سأل لكان سؤاله تشنيعا على سيده فكذلك ، سؤال العباد تشنيع على الله تعالى وهذا ينبغي أن يحرم ولا يحل إلا لضرورة كما تحل الميتة .

التالي السابق


( بيان تحريم السؤال من غير ضرورة وآداب الفقير المضطر إليه ) .

(اعلم) أغناك الله تعالى (أنه قد وردت منا في السؤال وتشديدات) عظيمة تدل على تحريمه والمراد بالسؤال هنا سؤال الناس عامة ويكون ذلك لنفسه، وخرج بذلك ما إذا كان يسأل غيره فهذا غير داخل في تلك التشديدات بل هو معونة وخرج من ذلك أيضا ما إذا كان لنفسه لكنه سأل الأقارب والأصدقاء فهو طريق القوم وعليه العمل; لأن الأصدقاء يفرحون بذلك ويرون الفضل والمنة للصديق القاصد إليه يشير قوله (وورد فيه أيضا ما يدل على الرخصة إذ قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - للسائل حق ولو جاء على فرس) .

قال العراقي: رواه أبو داود من حديث الحسين بن علي ومن حديث علي وفي الأول يعلى بن أبي يحيى جهله أبو حاتم ووثقه ابن حبان والثاني شيخ لم يسم وسكت عليهما أبو داود. انتهى .

قلت: ورواه كذلك أحمد وابن خزيمة والطبراني والباوردي وابن قانع وأبو نعيم في الحلية والبيهقي والضياء كلهم عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها، والرواية الثانية: رواها أيضا البيهقي وقال السخاوي في المقاصد: هو من رواية فاطمة بنت الحسين بن علي، واختلف عليه فقيل عنها عن أبيها عن علي، وقيل: بدون علي، وقيل: عنها عن جدتها فاطمة الكبرى، وهذه الرواية عند إسحاق بن راهويه، وعلى كل حال ففي الباب عن الهرماس عند الطبراني وفيه عثمان بن فائد وهو ضعيف .

وعن ابن عباس وعن زيد بن أسلم رفعه مرسلا بلفظ: اعطوا السائل ولو جاء على فرس أخرجه مالك في الموطأ هكذا، ووصله بن عدي من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة، ولكن عبد الله ضعيف بل رواه ابن عدي أيضا من طريق عمر بن يزيد المدائني عن عطاء عن أبي هريرة، وعمر ضعيف أيضا، والدارقطني في الأفراد من طريق الحسن بن علي الهاشمي عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا: لا يمنعن أحدكم السائل أن يعطيه وإن كان في يده قلباء من ذهب. وقال: تفرد به الحسن عن الأعرج وهو في مسند الضياء.

ثم قال العراقي: وأما ما ذكر عن ابن الصلاح في علوم الحديث أنه بلغه عن أحمد بن حنبل أنه قال: أربعة أحاديث تدور في الأسواق ليس لها أصل منها: للسائل حق. الحديث، فإنه لا يصح عن أحمد، وقد أخرج حديث الحسين بن علي في مسنده. انتهى .

قلت: وجدت بخط الحافظ نقلا عن خط ابن رجب الحنبلي [ ص: 303 ] ما نصه: ورد ذلك عن أحمد بمجرد روايته له في مسنده فيه نظر، فكم من حديث قال فيه أحمد: لا يصح، وقد أخرجه في مسنده، ومن كتب العلل لعبد الله بن أحمد، والأشرم، والخلال علم صحة هذا. انتهى .

وبخط الحافظ أيضا: الصحيح عن أحمد أنه أنكر حديث: لو صدق السائل ما أفلح من رده. كذا نقل عنه مهنا وكذا قال ابن المديني: ثلاثة أشياء لا تصح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها: لو صدق السائل .

(وفي الحديث: ردوا السائل ولو بظلف محرق) قال العراقي: رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي واللفظ له من حديث أم بجيد، وقال ابن عبد البر: مضطرب. انتهى .

قلت: رواه بهذا اللفظ أيضا مالك وأحمد والبخاري في التاريخ وابن ماجه وابن حبان والبيهقي كلهم من طريق بن بجيد الأنصاري عن جدته، ورواه ابن سعد والطبراني من رواية عمر وابن معاذ الأنصاري عن جدته حواء، هكذا هو في الجامع الكبير للسيوطي وقال الحافظ في الإصابة: حواء أم بجيد بموحدة وجيم مصغر، صحابية روى حديثها مالك عن يزيد بن أسلم عن ابن بجيد الأنصاري عن جدته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها سمعته يقول: ردوا السائل ولو بظلف محرق. هكذا أخرجه أحمد في مسنده عن روح بن عبادة عن مالك، وترجم لها: حواء جدة عمرو بن معاذ، ورواه أصحاب الموطأ فيه عن مالك عن زيد بلفظ: يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن لجارتها ولو كراعا محرقا.

ورواه مالك أيضا عن زيد بن أسلم عن عمرو بن معاذ عن جدته حواء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة. وأخرجه من طريق سعيد المقبري عن عبد الرحمن بن بجيد الأنصاري عن جدته مثله وقال الليث: حدثني سعيد المقبري عن عبد الرحمن بن بجيد عن جدته، وكانت ممن بايع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المسكين ليقوم على بابي فلا أجد له شيئا أعطيه، فقال لها: إن لم تجدي له شيئا تعطيه إياه إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه في يده. هكذا أخرجه بن سعد عن أبي الوليد عن الليث، وقال القسم الثالث: فرق ابن سعد بين حواء جدة عمرو بن معاذ الأنصارية وبين حواء أم بجيد، وهما واحدة .

(ولو كان السؤال حراما مطلقا لما جاز إعانة المتعدي على عدوانه والإعطاء إعانة، فالكاشف الغطاء فيه) عن وجه الصواب (أن السؤال حرام في الأصل) وإنما يباح بضرورة داعية له (أو حاجة مهمة قريبة من الضرورة فإن كان عنها) أي: عن تلك الحاجة وفي نسخة عنه، أي: عن السؤال (بد فهو حرام) والحاجة الخفيفة فيها تردد (وإنما قلنا: إن الأصل فيه التحريم; لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة) هي في الحقيقة آفات مهلكة (أما الأول: إظهار الشكوى من الله سبحانه وتعالى) لقصور النعمة (إذ السؤال إظهار الفقر وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه وهو عين الشكوى، وكما أن العبد المملوك) لرجل (لو سأل الناس لكان سؤاله تشنيعا على سيده، فكذا سؤال العباد تشنيع على الله تعالى وهذا ينبغي أن يحرم) لما في ضمنه من الشكاية من الله تعالى، (ولا يحل إلا لضرورة) ماسة (كما تحل الميتة) عند الضرورة .




الخدمات العلمية