الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال قاسم الجوعي الزهد في الدنيا هو الزهد في الجوف ، فبقدر ما تملك من بطنك كذلك تملك من الزهد وهذا إشارة إلى الزهد في شهوة واحدة ولعمري هي أغلب الشهوات على الأكثر وهي المهيجة لأكثر الشهوات ، وقال الفضيل الزهد في الدنيا هو القناعة وهذا إشارة إلى المال خاصة ، وقال الثوري الزهد هو قصر الأمل وهو جامع لجميع الشهوات ، فإن من يميل إلى الشهوات يحدث نفسه بالبقاء ، فيطول أمله ومن قصر أمله فكأنه رغب عن الشهوات كلها وقال أويس إذا خرج الزاهد يطلب ذهب الزهد عنه وما قصد بهذا حد الزهد ولكن جعل التوكل شرطا في الزهد .

وقال أويس أيضا الزهد هو ترك الطلب للمضمون وهو إشارة إلى الرزق وقال أهل الحديث حب الدنيا هو العمل بالرأي والمعقول ، والزهد إنما هو اتباع العلم ولزوم السنة وهذا إن أريد به الرأي الفاسد والمعقول الذي يطلب به الجاه في الدنيا فهو صحيح ، ولكنه إشارة إلى بعض أسباب الجاه خاصة أو إلى بعض ما هو من فضول الشهوات . فإن من العلوم ما لا فائدة فيه في الآخرة وقد طولوها حتى ينقضي عمر الإنسان في الاشتغال بواحد منها ، فشرط الزاهد أن يكون الفضول أول مرغوب عنه عنده وقال الحسن الزاهد الذي إذا رأى أحدا قال : هذا أفضل مني فذهب إلى أن الزهد هو التواضع وهذا إشارة إلى نفي الجاه والعجب وهو بعض أقسام الزهد وقال بعضهم : الزهد هو طلب الحلال وأين هذا ممن يقول : الزهد هو ترك الطلب كما قال أويس ولا شك في أنه أراد به ترك طلب الحلال وقد كان يوسف بن أسباط يقول : من صبر على الأذى وترك الشهوات وأكل الخبز من الحلال فقد أخذ بأصل الزهد .

وفي الزهد أقاويل وراء ما نقلناه فلم نر في نقلها فائدة .

التالي السابق


( وقال قاسم) بن عثمان (الجوعي) الدمشقي منسوب إلى ربيعة الجوع وقيل: كان يجوع كثيرا وقد سبق ذكره: (الزهد في الدنيا هو الزهد في الجوف، فبقدر ما تملك من بطنك كذلك تملك من الزهد) فكأن الدنيا عنده هو الشبع وأكل الشهوات وتناول المطعوم من غير الحاجات عن فضول الكفايات نقله صاحب القوت .

(وهذا إشارة إلى الزهد في شهوة واحدة) وهي شهوة البطن (ولعمري هي أغلب الشهوات على الأكثر وهي المهيجة لأكثر الشهوات، وقال الفضيل) بن عياض - رحمه الله تعالى - (الزهد هو القناعة) وكانت الدنيا عنده هي الحرص والشره والضراعة وفي لفظ له: القناعة هي الزهد (وهذا إشارة إلى المال خاصة، وقال) سفيان الثوري - رحمه الله تعالى - (الزهد هو قصر الأمل) وانتظار الموت، فصارت الدنيا عنده طول الأمل ونسيان قرب الأجل كذا في القوت، وقال القشيري في الرسالة: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: حدثنا أحمد بن إسماعيل الأزدي، حدثنا عمران بن موسى الأسفنجي، حدثنا الدورقي، حدثنا وكيع قال: قال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء. اهـ .

وهو (جامع لجميع الشهوات، فإن من يميل إلى الشهوات يحدث نفسه للبقاء، فيطول أمله ومن قصر أمله) واستشعر سرعة موته وفراقه للدنيا (فكأنه رغب عن الشهوات كلها) وقد روي مثل قول سفيان أيضا عن أحمد بن حنبل وعيسى بن يونس وغيرهما قال القشيري: وهذا الذي قالوه يحمل على أنه من أمارات الزهد والأسباب الباعثة والمعاني الموجبة له.

(وقال أويس) بن عامر (القرني) - رحمه الله تعالى - وهو سيد التابعين في قول لرجل سأله عن الزهد (إذا خرجت تطلب) أي: الرزق (ذهب الزهد) ، ولفظ القوت: إذا خرج العبد يطلب ذهب الزهد، وقال مرة لبعض من سأله عن الزهد: في أي شيء خرجت؟ فقال: أطلب المعاش، فقال له: فأين الزهد؟ يعني: أن الزهد عنده أن يقطع العبد بدوام الشغل لله عن التفرغ بطلب ما سوى الله، وأن ينسى في جنب ذكر الله ترك الطلب شغلا مما يرد عليه من المطلوب فلا يبقى فيه فراغ المرغوب فهذا غاية الزهد، وهو طريق طائفة من الأبدال اقتطعوا عن الخلق وأريدوا بهذه الحال كذا في القوت .

(وما قصد بهذا حد الزهد ولكن جعل التوكل شرطا في الزهد) أي: لا يكمل مقام الزهد إلا بالتوكل على الله تعالى (وقال أويس) - رحمه الله تعالى - (أيضا الزهد هو ترك الطلب للمضمون) أي: الذي ضمنه الله تعالى لعباده وأقسم عليه (وهو إشارة إلى الرزق) وهو بمعنى ما تقدم، قال هرم بن حيان، لقيته على شاطئ الفرات يغسل كسرا وخرقا قد التقطها من المنبوذ، وكانت ذلك أكله ولبسه، قال: فسألته عن الزهد أي شيء هو؟ فقال: في أي شيء خرجت؟ قلت: أطلب المعاش، قال: إذا وقع الطلب ذهب الزهد .

(وقال) بعض العلماء من (أهل الحديث الدنيا هو العمل بالرأي والمعقول، والزهد إنما هو اتباع العلم وطريق السنة) قال صاحب القوت: وهذا القول من الظواهر يشبه قول علماء الظاهر كما روينا عن سفيان قال: قالوا للزهري: ما الزهد؟ قال: ما لا يغلب الحرام صبره ولا يمنعه [ ص: 344 ] الحلال شكره، يعني أن يكون العبد صابرا عن الحرام حتى لا تغلبه شهوة الحرام يكون شاكرا في الحلال حتى لا يغلبه الحلال فيشغله عن الشكر. اهـ .

(وهذا إن أريد به الرأي الفاسد والمعقول يطلب به الجاه في الدنيا فهو صحيح، ولكنه إشارة إلى بعض أسباب الحياة خاصة أو إلى بعض ما هو من فضول الشهوات. فإن من العلوم ما لا فائدة فيه في الآخرة) بل يكون وبالا فيها وسببا لهلاكه (وقد طولوها) أي: تلك العلوم (حتى ينقضي عمر الإنسان في الاستقلال بواحد منها، فشرط الزاهد أن يكون الفضول أول مرغوب عنه عنده) وإلا لم يخلص له الزهد .

وقال صاحب القوت: ومن الزهد عند الزاهدين ترك فضول العلوم التي معلوماتها إلى الدنيا، وتدعو إلى الجاه والمنزلة عند أبنائها، وفيما لا نفع فيه في الآخرة ولا قربة به عند الله، وقد يشغل عن عبادة الله تعالى ويفرق الهم عند اجتماعه بين يدي الله تعالى، ويقسي القلب ويحجب عن التفكر في آلائه وعظمته، وقد أحدثت علوم كثيرة لم تكن تعرف فيما سلف اتخذها الغافلون علما وجعلها الباطلون شغلا، انقطعوا بها عن الله وحجبوا بها عن مشاهدة علم الحقيقة لا يستطيع ذكره لكثرة أهلها إلا أن يسأل عن شيء أعلم هو أم كلام؟ أو حق، أو تشبيه، أو صدق، وحكمة، أو زخرف، وغرور، أسنة هو أم بدعة؟ أعتيق أم محدث وتشديق، فحينئذ يخبر بصواب ذلك .

(وقال الحسن) البصري - رحمه الله تعالى -: (الزاهد الذي إذا رأى أحدا قال: هذا أفضل مني) قال صاحب القوت: (فذهب إلى أن الزهد هو التواضع) وقد قال يوسف بن أسباط: غاية التواضع أن تخرج من بيتك فلا ترى أحدا إلا رأيت أنه خير منك. رواه أبو نعيم في الحلية (وهذا إشارة إلى نفي الجاه والعجب وهو بعض أقسام الزهد وقال بعضهم: الزهد) إنما هو (طلب الحلال) ، وأنه واجب مفترض في مثل زمننا هذا لاختلاط الأشياء، وغلبه الشهوات وهو قول عاد في أهل الشام وطريقة عبادهم مثل إبراهيم بن أدهم وسليمان والخواص ويوسف بن أسباط وحذيفة المرعشي وأبي إسحاق الفزاري وشعيب بن حرب والداراني ووهيب بن الورد وفضيل بن عياض وهم عشرة معروفون بأكل الحلال، قالوا: فقد تعين فرض الزهد ووجب تفقد المطاعم والسؤال عنها لقلة المتقين وفقد الورعين .

(وأين هذا ممن يقول: الزهد هو ترك الطلب كما قال أويس) - رحمه الله تعالى - وذكر قريبا (ولا شك في أنه) أي: أويسا (أراد به) ترك (طلب الحلال) ولكل من القولين وجه. (وقد كان يوسف بن أسباط) الشيباني - رحمه الله تعالى - (يقول: من صبر على الأذى وترك الشهوات وأكل الخبز من الحلال فقد أخذ بأصل الزهد) نقله صاحب القوت .

(وفي الزهد أقاويل) كثيرة (وراء ما نقلناه فلم نر في نقلها فائدة) مع أن بعضها عند التأمل يرجع إلى بعض ما ذكر، فمن ذلك قول بعضهم: الزهد أن لا تفرح بموجود من الدنيا ولا تتأسف على مفقود منها نزع بذلك إلى قوله تعالى: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم وقال أبو عثمان: الزهد أن تترك الدنيا ثم لا تبالي من أخذها، وقال أبو علي الدقاق: الزهد أن تترك الدنيا كما هي لا تقول: أبني رباطا ولا أعمر مسجدا .

وقال ابن الجلاء: الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال لتصغر في عينيك فيسهل عليك الإعراض عنها .

وقال الجنيد: الزهد خلو القلب مما خلت منه اليد، وقال ابن المبارك: الزهد هو الثقة بالله مع حب الفقر، وبه قال شقيق البلخي ويوسف بن أسباط، قال القشيري: وهذا أيضا من أمارات الزهد فإنه لا يقوى العبد على الزهد إلا بالثقة بالله .

وقال عبد الله بن زيد: الزهد ترك الدينار والدرهم، وسأل رويم الجنيد عن الزهد فقال: هو استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب، ويروى عنه أيضا: الزهد خلو اليد من الملك وخلو القلب من التتبع .

وقال الشبلي: الزهد في الدنيا أن تبغض أهلها وتبغض ما فيها وقال بعضهم: الزهد في الدنيا هو ترك ما فيها على من فيها .

فهذه ثلاثة عشر قولا نقلها القشيري في الرسالة وفي القوت: وقالت طائفة: الزهد هو بغض المحمدة وأن لا تحب أن تحمد على شيء من أعمالك، وقال آخرون: الدنيا هي الأكل واللباس والمال والزهد هو ترك فضول هذه الأشياء، وقال آخرون: حقيقة الدنيا هو حب [ ص: 345 ] الشرف والعلو طلب العز والرياسة فينبغي أن يكون الزهد عند هؤلاء هو حب الخمول والذلة وطلب الخضوع والضعة .

وقال آخرون: الزهد مفارقة حظوظ النفس في كل شيء، وكان سفيان يقول: الزهد في الدنيا هو الصبر على الحق في كل شيء، وسئل حاتم الأصم عن الزهد فقال: رأسه الثقة بالله ووسطه الصبر وآخره الإخلاص، فأدخل فيه التوكل وجعله أوله; لأنه لا يزهد حتى يثق بالله في الرزق ويتوكل عليه فيه، وجعل الصبر حالا منها، أراد الثبات لئلا يميل أو يخرج فيرجع إلى الرغبة، وجعل منها الإخلاص وهذا إخلاص الصادقين أن تريد بذلك وجه الله وحده وابتغاء مرضاته لا تطلعا إلى عوض ولا تطلبا لسبب هو دون الله تعالى .

وكذلك جعل أحمد بن حنبل الإخلاص هو الزهد نفسه به; لأنه إذا بلغ حقيقة الإخلاص لله وحده فقد زهد فيما سواه فاتفقا بمعنى تقاربا فيه، أما أحدهما ففسر الزهد بالإخلاص جعله نهايته وهو حاتم، وأحمد عبر عن الإخلاص بالزهد; لأنه حقيقة، وأما أيوب السختياني فإنه سئل عن الزهد ما هو؟ فقال: أن تقعد في بيتك فإن كان قعودك لله رضا وإلا خرجت تنفق درهمك فإن كان رضا، وإلا أمسكت تمسك مالك، فإن كان رضا، وإلا أخرجته تسكت، فإن كان سكوتك لله رضا وإلا تكلمت تتكلم، فإن كان كلامك لله رضا وإلا سكت، هذا هو الزهد وإلا فلا تلعبوا .

وهذا مقام المحاسبة للنفس، وحال المراقب للرب ووصف المراعي للوقت، فجعل الدنيا هي ترك موافقة رضا الله تعالى في كل شيء، إذ جعل الزهد فيها هو اتباع مرضاته في الأشياء، وقال مجاهد: الزهد الأثرة لله على ما سواه إذا أتاه شيء من الدنيا استعمل الخوف والحياء فيؤدي إلى كل ذي حق حقه.

وكان ابن عيينة يقول: حد الزهد أن يكون شاكرا عند الرخاء، صابرا عند البلاء، فهذا قد صبر، الشاكر على النعمة، والصابر على البلية زاهد وجمع له الزهد باجتماع الشكر والصبر وهذا زهد عموم المؤمنين .

وقيل ليحيى بن معاذ: متى يكون الرجل زاهدا؟ فقال: إذا بلغ حرصه في ترك الدنيا حرص الطالب لها كان زاهدا، وقال الداراني: الزهد التخلي من الدنيا والاشتغال بالعبادة، فأما من تركها وتبطل فإنما طلب الراحة لنفسه .

وقال سهل: أول الزهد التوكل وأوسطه إظهار القدرة، وقال أيضا: لا يزهد العبد زهدا حقيقيا لا رجعة بعده إلا بعد مشاهدة قدرة .

وقال بعضهم: الزهد هو إخفاء الزهد، وقال سهل: لا ينال الزهد إلا بالخوف; لأن من خاف ترك فجعل الزهد مقاما في الخوف رفعة عليه، وفي الخبر: إنما الزهد أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يدك، فهذا مقام التوكل، وقال قوم: الزهد هو ترك الادخار، فكانت الدنيا عندهم الجمع .

وقال بعضهم: الدنيا ما شغل القلب واهتم به، فجعلوا الزهد ترك الاهتمام وطرح النفس تحت تصريف الأحكام، وهذا هو التفويض والرضا، وقال الداراني: التورع أول الزهد، وقال أبو هشام المغازلي: الزهد قطع الآمال وإعطاء المجهود، وخلع الراحة، وقال ابن السماك: الزهد أن لا يفرح بشيء من الدنيا أتاه ولا يحزن على شيء منها فاته لا يبالي على عسر أصبح أم يسر .

وقال طيفور البسطامي: الزهد أن لا يملك ولا يملك، وقال علماء الظاهر: الزهد في الدنيا موافقة العلم والقيام بأحكام الشرع وأخذ الشيء من وجهه ووضعه في حقه، وما خالف العلم فهو جهل كله وهوى، فذكروا فرض الزهد وظاهره ولم يعرفوا غرائبه وباطنه ذلك مبلغهم من العلم، ونصيبهم من الفهم، وهو مقامهم من المقال، وطريقهم المشوب بالاعتلال .

وقال الجنيد: الزهد معنيان ظاهر وباطن، فالظاهر نفض ما في الأيدي من الأملاك، وترك طلب المفقود، والباطن زوال الرغبة عن القلب ووجود العزوف والانصراف عن ذكر ذلك .

فهذه الأقوال مع ما ذكره المصنف تنيف على أربعين قولا وإنما لم ير المصنف في نقلها فائدة .




الخدمات العلمية