الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الثاني أن رأس الخطايا المهلكة حب الدنيا ورأس أسباب النجاة التجافي بالقلب عن دار الغرور ومواتاة النعم على وفق المراد ، من غير امتزاج ببلاء ومصيبة تورث طمأنينة القلب إلى الدنيا وأسبابها ، وأنسه بها ، حتى تصير كالجنة في حقه ، فيعظم بلاؤه عند الموت بسبب مفارقته وإذا كثرت عليه المصائب انزعج قلبه عن الدنيا ، ولم يسكن إليها ، ولم يأنس بها ، وصارت سجنا عليه ، وكانت نجاته منها غاية اللذة كالخلاص من السجن ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والكافر كل من أعرض عن الله تعالى ولم يرد إلا الحياة الدنيا ورضي بها واطمأن إليها والمؤمن كل منقطع بقلبه عن الدنيا شديد الحنين إلى الخروج منها والكفر بعضه ظاهر ، وبعضه خفي ، وبقدر حب الدنيا في القلب يسري فيه الشرك الخفي بل الموحد المطلق هو الذي لا يحب إلا الواحد الحق فإذا في البلاء نعم من هذا الوجه فيجب الفرح به ،

وأما التألم فهو ضروري وذلك يضاهي فرحك عند الحاجة إلى الحجامة بمن يتولى حجامتك مجانا أو يسقيك دواء نافعا بشعا : مجانا فإنك تتألم وتفرح فتصبر على الألم وتشكره على سبب الفرح ، فكل بلاء في الأمور الدنيوية مثاله الدواء الذي يؤلم في الحال وينفع في المآل بل من دخل دار ملك للنضارة : وعلم أنه يخرج منها لا محالة فرأى وجها حسنا لا يخرج معه من الدار كان ذلك وبالا وبلاء عليه ، لأنه يورثه الأنس بمنزل لا يمكنه المقام فيه ، ولو كان عليه في المقام خطر من أن يطلع عليه الملك فيعذبه فأصابه ما يكره حتى نفره عن المقام كان ذلك نعمة عليه والدنيا منزل وقد دخلها الناس من باب الرحم وهم خارجون عنها من باب اللحد ، فكل ما يحقق أنسهم بالمنزل فهو بلاء ، وكل ما يزعج قلوبهم عنها ويقطع أنسهم بها فهو نعمة ، فمن عرف هذا تصور منه أن يشكر على ، البلايا ومن لم يعرف هذه النعم في البلاء لم يتصور منه الشكر لأن الشكر يتبع معرفة النعمة بالضرورة

ومن لا يؤمن بأن ثواب المصيبة أكبر من المصيبة لم يتصور منه الشكر على المصيبة وحكي أن أعرابيا عزى ابن عباس على أبيه فقال :


اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية بعد صبر الراس     خير من العباس أجرك بعده
والله خير منك للعباس

فقال ابن عباس ما عزاني أحد أحسن من تعزيته

.

التالي السابق


(الوجه الثاني أن رأس الخطايا المهلكة حب الدنيا) كما ورد معنى ذلك في الخبر (ورأس أسباب النجاة التجافي بالقلب عن دار الغرور) بأن يبعد عنها، وعن الأسباب التي تقربه إليها (ومواناة النعم على وفق المراد، من غير امتزاج ببلاء ومصيبة تورث طمأنينة القلب إلى الدنيا وأسبابها، وأنسه بها، حتى تصير كالجنة في حقه، فيعظم بلاؤه عند الموت بسبب مفارقته) لها لتعلق قلبه بها (وإذا كثرت عليه المصائب انزعج قلبه من الدنيا، ولم يسكن إليها، ولم يأنس بها، وصارت سجنا عليه، وكان نجاته منها) بالموت (غاية اللذة كالخلاص من السجن) فيفرح كما يفرح الذي خرج من سجن. (ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وقد تقدم. (و) ليس المراد بالكافر هنا من أشرك بالله في توحيده، ولم يصدق رسوله، بل (الكافر كل من أعرض عن الله تعالى) بقلبه (فلم يرد إلا الحياة الدنيا ورضي بها واطمأن إليها) وهذا المعنى يتصور في بعض من تحلى بظاهر الإيمان. (والمؤمن) هنا (كل منقطع بقلبه عن الدنيا شديد الحنين إلى الخروج منها) .

(والكفر بعضه ظاهر، وبعضه خفي، وبقدر حب الدنيا في القلب) وتمكنه منه (يسري فيه الشرك الخفي) أخفى من دبيب النمل (بل الموحد المطلق هو الذي لا يحب إلا الواحد الحق) ولا يريد سواه. (فإذا في البلاء نعم من هذا الوجه فيجب الفرح به، وأما التألم فهو ضروري وذلك يضاهي فرحك عند الحاجة إلى الحجامة فمن يتولى حجامتك مجانا) بلا عوض (أو يسقيك دواء نافعا بشعا) أي: كريها (وهو مجان) من غير عوض (فإنك تتألم وتفرح وتصبر على الألم وتشكره على سبب الفرح، فكل بلاء في الأمور الدنيوية مثاله الدواء الذي يؤلم في الحال) ببشاعته (وينفع في المال) فالصبر يتعلق بالأول، والشكر يتعلق بالثاني (بل من دخل دار ملك للنضارة) أي: التفرج (وعلم أنه يخرج منها لا محالة فرأى وجها حسنا لا يخرج معه من الدار كان ذلك وبالا وبلاء عليه، لأنه يورثه الأنس بمنزل لا يمكنه المقام فيه، ولو كان عليه في المقام خطر من أن يطلع عليه الملك فيعذبه فأصابه ما يكره حتى نفره عن المقام كان ذلك نعمة عليه) يجب مقابلتها بالشكر.

(والدنيا منزل وقد دخلها الناس من باب الرحم وهم خارجون منها من باب اللحد، فكل ما يحقق أنسهم بالمنزل فهو بلاء، وكل ما يزعج قلوبهم عنها ويقطع أنسهم بها فهو نعمة، فمن عرف هذا تصور منه أن يشكر على البلاء، ومن لم يعرف هذه النعم في البلاء لم يتصور منه الشكر على المصيبة) وبه اتضح معنى الوجه الخامس (وحكي أن أعرابيا عزى ابن عباس على أبيه) رضي الله عنهما (فقال:) ولفظ القوت: وحدثت أن العباس لما توفي قعد عبد الله للتعزية فدخل الناس أفواجا يعزونه فكان فيمن دخل أعرابي فأنشأ يقول:

(

اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية بعد صبر الراس [ ص: 142 ] خير من العباس أجرك بعده
والله خير منك للعباس

فقال ابن عباس) رضي الله عنه (ما عزاني أحد أحسن من تعزيته) واستحسن ذلك. ثم قال صاحب القوت: وعندنا في قوله تعالى: إن الإنسان لظلوم كفار قيل: ظلوم بالسخط، كفار بالنعم، وفي قوله تعالى: إن الإنسان لربه لكنود قيل وهو الذي يشكو المصائب، وينسى النعم، ولو علم أن مع كل مصيبة عشر نعم بحذائها وزيادة، قلت شكواه وبدلها شكرا، ثم إن المصائب لا تخلو من ثلاثة أقسام كلها نعم من الله تعالى إما أن تكون درجة، وهذا للمقربين والمحسنين، أو تكون كفارة وهذا لخصوص أصحاب اليمين وللأبرار، أو تكون عقوبة، وهذا للكافة من المسلمين، فتعجيل العقوبة في الدنيا رحمة ونعمة، ومعرفة هذه النعم طريق للشاكرين .




الخدمات العلمية