الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما صفة القدرة فهي أيضا كمال والعجز نقص فكل كمال وبهاء وعظمة واستيلاء فإنه محبوب وإدراكه لذيذ حتى أن الإنسان ليسمع في الحكاية شجاعة علي وخالد رضي الله عنهما وغيرهما من الشجعان وقدرتهما واستيلاءهما على الأقران فيصادف في قلبه اهتزازا وفرحا وارتياحا ضروريا بمجرد لذة السماع ؛ فضلا عن المشاهدة ، ويورث ذلك حبا في القلب ضروريا للمتصف به فإنه نوع كمال ، فانسب الآن قدرة الخلق كلهم إلى قدرة الله تعالى ، فأعظم الأشخاص قوة وأوسعهم ملكا وأقواهم بطشا وأقهرهم للشهوات وأقمعهم لخبائث النفس وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره ما منتهى قدرته وإنما غايته أن يقدر على بعض صفات نفسه ، وعلى بعض أشخاص الإنس في بعض الأمور ، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولا ضرا ولا نفعا ، بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى ولسانه من الخرس وأذنه من الصمم ، وبدنه من المرض ، ولا يحتاج إلى عد ما يعجز عنه في نفسه وغيره مما هو على الجملة متعلق قدرته فضلا عما لا تتعلق به قدرته من ملكوت السموات وأفلاكها وكواكبها والأرض وجبالها وبحارها ورياحها وصواعقها ومعادنها ، ونباتها وحيواناتها وجميع أجزائها ، فلا قدرة له على ذرة منها وما هو قادر عليه من نفسه وغيره ، فليست قدرته من نفسه وبنفسه ، بل الله خالقه وخالق قدرته وخالق أسبابه ، والممكن له من ذلك ، ولو سلط بعوضا على أعظم ملك وأقوى شخص من الحيوانات لأهلكه فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه كما قال في أعظم ملوك الأرض ذي القرنين إذ قال : إنا مكنا له في الأرض فلم يكن جميع ملكه وسلطنته إلا بتمكين الله تعالى إياه في جزء من الأرض ، والأرض كلها مدرة بالإضافة إلى أجسام العالم ، وجميع الولايات التي يحظى بها الناس من الأرض غبرة من تلك المدرة ، ثم تلك الغبرة أيضا من فضل الله تعالى وتمكينه ، فيستحيل أن يحب عبدا من عباد الله تعالى لقدرته وسياسته وتمكينه واستيلائه وكمال قوته ، ولا يحب الله تعالى لذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فهو الجبار القاهر والعليم القادر السموات مطويات بيمينه والأرض وملكها وما عليها في قبضته وناصية ، جميع المخلوقات في قبضة قدرته ، إن أهلكهم من عند آخرهم لم ينقص من سلطانه وملكه ذرة ، وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعي بخلقها ولا يمسه لغوب ولا فتور في اختراعها ، فلا قدرة ولا قادر إلا وهو أثر من آثار قدرته ، فله الجمال والبهاء والعظمة والكبرياء والقهر والاستيلاء ، فإن كان يتصور أن يحب قادر لكمال قدرته ، فلا يستحق الحب بكمال القدرة سواه أصلا .

وأما صفة التنزه عن العيوب والنقائص والتقدس عن الرذائل والخبائث ، فهو أحد موجبات الحب ومقتضيات الحسن والجمال في الصور الباطنة ، والأنبياء والصديقون وإن كانوا منزهين عن العيوب والخبائث فلا يتصور كمال التقدس والتنزه إلا للواحد الحق الملك والقدوس ذي الجلال والإكرام .

وأما كل مخلوق فلا يخلو عن نقص وعن نقائص ، بل كونه عاجزا مخلوقا مسخرا مضطرا هو عين العيب والنقص فالكمال لله وحده وليس لغيره كمال إلا بقدر ما أعطاه الله ، وليس في المقدور أن ينعم بمنتهى الكمال على غيره فإن منتهى الكمال أقل درجاته أن لا يكون عبدا مسخرا لغيره قائما بغيره ، وذلك محال في حق غيره فهو المنفرد بالكمال المنزه عن النقص المقدس عن العيوب وشرح وجوه التقدس والتنزه في حقه عن النقائص يطول وهو من أسرار علوم المكاشفات فلا نطول بذكره فهذا الوصف أيضا إن كان كمالا وجمالا محبوبا فلا تتم حقيقته إلا له وكمال غيره وتنزهه لا يكون مطلقا ، بل بالإضافة إلى ما هو أشد منه نقصانا كما أن للفرس كمالا بالإضافة إلى الحمار وللإنسان ، كمالا بالإضافة إلى الفرس ، وأصل النقص شامل للكل ، وإنما يتفاوتون في درجات النقصان .

فإذا ، الجميل محبوب ، والجميل المطلق هو الواحد الذي لا ند له الفرد الذي لا ضد له ، الصمد الذي لا منازع له ، الغني الذي لا حاجة له ، القادر الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه العالم الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض القاهر الذي لا يخرج عن قبضة قدرته أعناق الجبابرة ، ولا ينفلت من سطوته وبطشه رقاب القياصرة ، الأزلي الذي لا أول لوجوده ، الأبدي الذي لا آخر لبقائه الضروري الوجود الذي لا يحوم إمكان العدم حول حضرته ، القيوم الذي يقوم بنفسه ويقوم كل موجود به جبار السموات والأرض خالق الجماد والحيوان والنبات ، المنفرد بالعزة والجبروت والمتوحد ، بالملك والملكوت ، ذو الفضل والجلال والبهاء والجمال والقدرة والكمال الذي تتحير في معرفة جلاله العقول وتخرس ، في وصفه الألسنة الذي كمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته ، ومنتهى نبوة الأنبياء الإقرار بالقصور عن وصفه ، كما قال سيد الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقال سيد الصديقين رضي الله تعالى عنه : العجز عن درك الإدراك إدراك ، سبحان من لم يجعل للخلق طريقا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته فليت شعري من ينكر إمكان حب الله تعالى تحقيقا ويجعله مجازا أينكر أن هذه الأوصاف من أوصاف الجمال .

والمحامد ونعوت الكمال والمحاسن أن ، ينكر كون الله تعالى موصوفا بها ، أو ينكر كون الكمال والجمال والبهاء والعظمة محبوبا بالطبع عند من أدركه فسبحان من احتجب عن بصائر العميان غيرة على جماله وجلاله أن يطلع عليه إلا من سبقت له منه الحسنى الذين هم عن نار الحجاب مبعدون وترك الخاسرين في ظلمات العمى يتيهون وفي مسارح المحسوسات وشهوات البهائم يترددون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون الحمد لله ، بل أكثرهم لا يعلمون .

فالحب بهذا السبب أقوى من الحب بالإحسان ؛ لأن الإحسان يزيد وينقص ولذلك ، أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام أن أود الأوداء إلى من عبدني بغير نوال لكن ليعطي الربوبية حقها وفي الزبور من أظلم ممن عبدني لجنة أو نار : لو لم أخلق جنة ولا نارا ألم أكن أهلا أن أطاع ومر عيسى عليه السلام على طائفة من العباد قد نحلوا فقالوا : نخاف النار ونرجو الجنة ، فقال لهم : مخلوقا خفتم ومخلوقا رجوتم ، ومر بقوم آخرين كذلك فقالوا : نعبده حبا له وتعظيما لجلاله فقال : أنتم أولياء الله حقا معكم أمرت أن أقيم وقال أبو حازم إني لأستحيي أن أعبده للثواب والعقاب فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل وكالأجير السوء إن لم يعط لم يعمل .

وفي الخبر لا يكونن أحدكم كالأجير السوء إن لم يعط أجرا لم يعمل ، ولا كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل .

التالي السابق


(وأما صفة القدرة فهي أيضا كمال والعجز نقص فكل كمال وبهاء وعظمة ومجد واستيلاء فإنه محبوب وإدراكه لذيذ حتى أن الإنسان ليسمع في الحكاية) والمحاورات (شجاعة علي) بن أبي طالب (وخالد) بن الوليد رضي الله عنهما (وغيرهما من الشجعان) المشهورين جاهلية وإسلاما (وقدرتهما واستيلاءهما على الأقران) من أهل زمانهما (فيصادف في قلبه اهتزازا وفرحا وارتياحا ضروريا بمجرد لذة السماع; فضلا عن المشاهدة، ويورث ذلك حبا في القلب ضروريا للمتصف فإنه نوع كمال، فانسب الآن قدرة الخلق كلهم إلى قدرة الله تعالى، فأعظم الأشخاص قوة وأوسعهم ملكا وأقواهم بطشا وأقهرهم للشهوات وأقمعهم لخبائث النفس وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره ما منتهى [ ص: 565 ] قدرته) وما مبلغها (وإنما غايته أن يقدر على بعض صفات نفسه، وعلى بعض أشخاص الإنس في بعض الأمور، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا ضرا ولا نفعا، بل لا يقدر على حفاظ عينه من العمى ولسانه من الخرس وأذنه من الصمم، وبدنه من المرض، ولا يحتاج إلى عد ما يعجز عنه في نفسه وغيره مما هو على الجملة متعلق قدرته فضلا عما لا تتعلق به قدرته) ولا يناله (من ملكوت السماوات وأفلاكها وكواكبها و) من ملكوت (الأرض وجبالها وبحارها ورياحها وصواعقها ومعادنها، ونباتها وحيواناتها وجميع أجزائها، فلا قدرة له على ذرة منها وما هو قادر عليه من نفسه وغيره، فليست قدرته من نفسه وبنفسه، بل الله خالقه وخالق قدرته وخالق أسبابه، والممكن له من ذلك، ولو سلط بعوضا على أعظم ملك) ، كما وقع للنمروذ (وأقوى شخص من الحيوانات) كالفيل (لأهلكه) أما إهلاك النمروذ به فمعروف في التواريخ، وأما إهلاك الفيل به فقد ذكر غير واحد من المتكلمين على عجائب الحيوانات كالدميري وغيره: أن البعوض إذا دخل في أذن الفيل كان سبب هلاكه; ولذلك لا يزال يحرك آذانه شبه المراويح لئلا يقربه البعوض (فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه) ومع ذلك فهي ناقصة إذ لا تتناول إلا بعض الممكنات، ولا تصلح للاختراع، بل الله سبحانه هو المخترع لمقدورات العبد بواسطة قدرته مهما هيأ جميع أسباب الموجود المقدورة، (كما قال في أعظم ملوك الأرض ذي القرنين) الإسكندر; (إذ قال: إنا مكنا له في الأرض) وآتيناه من كل شيء سببا ، (فلم يكن جميع ملكه وسلطنته إلا بتمكين الله تعالى إياه في جزء من الأرض، والأرض كلها مدرة بالإضافة إلى أجسام العالم، وجميع الولايات التي يحظى بها الناس من الأرض غبرة من تلك المدرة، ثم تلك الغبرة أيضا من فضل الله وتمكينه، فيستحيل أن يحب عبدا من عباد الله تعالى لقدرته وسياسته وتمكينه واستيلائه وكمال قوته، ولا يحب الله تعالى لذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فهو الجبار القاهر والعليم القادر) مالك الأوائل والأواخر (السماوات مطويات بيمينه والأرض وملكها وما عليها في قبضته، ناصية جميع المخلوقات في قبضة قدرته، إن أهلكهم من عند آخرهم لم ينقص من سلطانه وملكه ذرة، وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعي بخلقه ولا يمسه لغوب ولا فتور في اختراعه، فلا قدرة ولا قادر إلا وهو أثر من آثار قدرته، فله الجمال والبهاء والعظمة والكبرياء والقهر والاستيلاء، فإن كان يتصور أن يحب قادر لكمال قدرته، فلا يستحق الحب بكمال القدرة سواه أصلا، وأما صفة التنزه عن العيوب والنقائص والتقدس عن الرذائل والخبائث، فهو أحد موجبات الحب ومقتضيات الحسن والجمال في الصور الباطنة، والأنبياء والصديقون وإن كانوا منزهين عن العيوب والخبائث فلا يتصور كمال التقديس والتنزيه إلا للواحد الملك الحق القدوس ذي الجلال والإكرام، وأما كل مخلوق فلا يخلو عن نقص وعن نقائص، بل كونه عاجزا مسخرا مضطرا هو عين النقص) والعيب، وإليه الإشارة بقول بعض العارفين: وجودك ذنب لا يقاس به ذنب، وبقول الشيخ رسلان: كلك شرك خفي (فالكمال لله وحده وليس لغيره كمال إلا بقدر ما أعطاه، وليس في المقدور أن ينعم بمنتهى الكمال على [ ص: 566 ] غيره) بحيث يصل إلى غاية ليس وراءها مزيد من كل وجه (فإن منتهى الكمال أقل درجاته أن لا يكون عبدا مسخرا لغيره وقائما بغيره، وذلك محال في حق غيره) إذ غيره لا قوام له بنفسه في وجوده، (فهو المنفرد بالكمال المنزه عن النقص المقدس عن العيوب) المبرأ عن الاعتلال والاختلال (وشرح وجوه التقديس والتنزه في حقه عن النقائض يطول) بيانه وتفصيله (وهو من أسرار علوم المكاشفات فلا نطول بذكره) لأنه لا يليق بهذا المقام، (فهذا الوصف أيضا إن كان كمالا وجمالا محبوبا فلا تتم حقيقته إلا له وكمال غيره وتنزهه لا يكون مطلقا، بل بالإضافة إلى ما هو أشد منه نقصانا كما أن للفرس كمالا بالإضافة إلى الحمار، للإنسان كمالا بالإضافة إلى الفرس، وأصل النقص شامل للكل، وإنما يتفاوتون في درجات النقصان، فإذا الجميل محبوب، والجميل المطلق) هو الجليل المطلق إذ نعوت الجلال هي الغنى والملك والتقديس والعلم والقدرة وغيرها، فالجامع لجميعها هو الجليل المطلق، والموصوف ببعضها جلالته بقدر ما نال في هذه النعوت، فالجليل المطلق (هو الواحد الذي لا ند له الفرد الذي لا ضد له، الصمد الذي لا منازع له، الغني الذي لا حاجة له، القادر الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه العالم الذي لا يعزب) أي: لا يغيب (عن علمه مثال ذرة في السماوات والأرض القاهر الذي لا تخرج عن قبضة قدرته أعناق الجبابرة، ولا تنفلت من سطوته وبطشته رقاب القياصرة، الأزلي لا أول لوجوده، الأبدي الذي لا آخر لبقائه الضروري الوجود الذي لا يحوم إمكان العدم حول حضرته، القيوم الذي يقوم بنفسه ويقوم كل موجود به جبار السموات والأرض خالق الجماد والحيوان والنبات، المنفرد بالعزة والجبروت، المتوحد بالملك والملكوت، ذو الفضل والجلال والبهاء والجمال والقدرة والكمال) وهذه كلها صفات الجلال، وهي إذا نسبت إلى البصيرة المدركة لها سميت جمالا وسمي المتصف بها جميلا، وإنما كان الحق هو الجميل المطلق; لأن كل ما في العالم من جمال وكمال وحسن، فهو من أنوار ذاته وآثار صفاته، وليس في الوجود موجود له الكمال المطلق الذي لا ثنوية فيه سوى الله تعالى لما تقدم (الذي تتحير في معرفة جلاله العقول، وتحرس في وصفه الألسنة الذي كمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته، ومنتهى نبوة الأنبياء الإقرار بالقصور عن وصفه، كما قال) مشيرا إلى هذا المقام (سيد الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) سبحانك (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عائشة: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وقد تقدم .

وعند ابن خزيمة من هذا الوجه: وأعوذ بك منك لا أحصي مدحك إلا ثناء عليك .

وفي آخر عنده أيضا من وجه آخر عنها وبعفوك من عقوبتك، وبك منك أثني عليك لا أبلغ كل ما فيك .

وفي آخر عند الخلعي من وجه ثالث عنها: لا أحصي أسماءك ولا ثناء عليك . وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث علي رضي الله عنه (وقال سيد الصديقين) أبو بكر (رضي الله عنه: العجز عن درك الإدراك إدراك، سبحان من لا يجعل للخلق طريقا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته) قال المصنف في المقصد الأسنى: نهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة هي أنهم لا يعرفونه وإنهم لا يمكنهم البتة معرفته، وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله تعالى، فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيا، فقد عرفوه أي: بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته وهو الذي أشار إليه الصديق بقوله المذكور، بل هو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه ولم يرد به أنه عرف منه ما لا يطاوعه لزمانة في العبارة عنه، بل معناه: إني لا أحيط بمحامدك [ ص: 567 ] وصفات إلهيتك، وإنما أنت المحيط بها وحدك، فإذا لا يحيط مخلوق من ملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة والدهشة، انتهى .

(فليت شعري من ينكر إمكان حب الله تعالى تحقيقا ويجعله مجازا) بمعنى الطاعة والامتثال (أينكر أن هذه الأوصاف من أوصاف الجمال والمحامد ونعوت الكمال والمحاسن، أو ينكر كون الله تعالى موصوفا بها، أو ينكر كون الكمال والبهاء والعظمة محبوبا بالطبع عند من أدركه) وهم أهل البصيرة الباطنة (فسبحان من احتجب عن بصائر العميان) وهم الذين فقدوا تلك البصيرة (غيرة على جماله وجلاله أن يطلع عليه إلا من سبقت له منه الحسنى الذين هم عن نار الحجاب مبعدون وترك الخاسرين في ظلمات العمى) يتيهون، وفي مسارح المحسوسات وشهوات البهائم (يترددون) وبحكم مبلغهم في علمهم (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون) والحاصل أنه إذا ثبت أنه جميل وجليل، فكل جميل فهو محبوب ومعشوق عند مدرك جماله، ولذلك كان الله محبوبا، ولكن عند العارفين، والمنكرون لهذا جاهلون، ومن جهل شيئا عاداه، وهذا كما تكون الصورة الجميلة الظاهرة محبوبة، ولكن عند المبصرين لا عند العميان، (فالحب بهذا السبب أقوى من الحب بالإحسان; لأن الإحسان يزيد وينقص، وكذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام أن أود الأوداء) أي: أكثرهم ودا (إلى من عبدني بغير نوال) أي: عطاء (لكن ليعطي الربوبية حقها) كذا في القوت (وفي الزبور) فيما نقله ابن منبه (ومن أظلم ممن عبدني لجنة أو نار) أي: رجاء أو خوفا، (لو لم أخلق جنة ولا نارا ألم أكن أهلا أن أطاع) كذا في القوت (ومر عيسى عليه السلام على طائفة من العباد قد نحلوا) وتغيرت ألوانهم فسألهم عن حالهم (فقالوا: نخاف النار و) مر على آخرين فرآهم كذلك وسألهم فقالوا: (نرجو الجنة، فقال لهم: مخلوقا خفتم ومخلوقا رجوتم، ومر بقوم آخرين) فرآهم (كذلك) فسألهم (فقالوا: نعبده حبا له وتعظيما لجلاله فقال: أنتم أولياء الله حقا معكم أمرت أن أقيم) ، وقد مر هذا قريبا بأبسط مما هنا، وفيه فقال لهم: أنتم المقربون أنتم المقربون، وقد ذكره صاحب القوت باللفظين، (وقال أبو حازم) سلمة بن دينار الأعرج التابعي العابد رحمه الله تعالى (إني لأستحيي أن أعبده للثواب والعقاب فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل وكالأجير السوء إن لم يعط لم يعمل) نقله صاحب القوت فقال: وممن أقيم في هذا المقام جماعة من التابعين منهم أبو حازم المدني كان يقول: إني لأستحيي من ربي أن أعبده للثواب فأكون كالأجير السوء إن لم يعط أجر عمله لم يعمل ولكن أعبده محبة له .

رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي بكر الآجري، حدثنا عبد الله بن محمد العطشي، حدثنا إبراهيم بن الجنيد، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير، والهيثم بن جميل قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: قال أبو حازم: إني لأستحيي من ربي -عز وجل- أن أساله شيئا فأكون كالأجير إذا عمل طلب أجره ولكن أعمل تعظيما له (وفي الخبر لا يكونن أحدكم كالأجير السوء إن لم يعط أجرا لم يعمل، ولا كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل) لفظ القوت: وقد روينا معنى هذا الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يكونن أحدكم كالعبد السوء إن خاف عمل ولا كالأجير السوء إن لم يعط أجرا لم يعمل .

وقال العراقي: لم أجد له أصلا .




الخدمات العلمية