الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فقد عرفت إذن أن المراتب ست وأعلاها رتبة المستغني ثم الزاهد ثم الراضي ، ثم القانع ، ثم الحريص ، وأما المضطر فيتصور في حقه أيضا الزهد والرضا والقناعة ، ودرجته تختلف بحسب اختلاف هذه الأحوال واسم الفقير يطلق على هذه الخمسة أما تسمية المستغني فقيرا ، فلا وجه لها بهذا المعنى بل إن سمي فقيرا فبمعنى آخر وهو معرفته بكونه محتاجا إلى الله تعالى في جميع أموره عامة ، وفي بقاء استغنائه عن المال خاصة فيكون اسم الفقير له كاسم العبد لمن عرف نفسه بالعبودية وأقر بها فإنه أحق باسم العبد من الغافلين ، وإن كان اسم العبد عاما للخلق فكذلك اسم الفقير عام ، ومن عرف نفسه بالفقر إلى الله تعالى فهو أحق باسم الفقير فاسم الفقير مشترك بين هذين المعنيين ، وإذا عرفت هذا الاشتراك فهمت أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من الفقر وقوله عليه : السلام كاد الفقر أن يكون كفرا لا يناقض قوله أحيني مسكينا وأمتني مسكينا إذ فقر المضطر هو الذي استعاذ منه ، والفقر الذي هو الاعتراف بالمسكنة والذلة والافتقار إلى الله تعالى هو الذي سأله في دعائه صلى الله عليه وسلم وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء

.

التالي السابق


(فقد عرفت أن المراتب إذا ست وأن أعلاها رتبة المستغني) بالمعنى الذي ذكره المصنف اصطلاحا منه (ثم الزاهد ثم الراضي، ثم القانع، ثم الحريص، وأما المضطر فيتصور في حقه أيضا الزهد والرضا والقناعة، ودرجته تختلف بحسب اختلاف هذه الأحوال) كما سبق التلويح إليه، (واسم الفقير يطلق على هذه الخمسة) المذكورة ما عدا الأول، (أما تسمية المستغني فقيرا فمعنى آخر، وهو معرفته بكونه محتاجا إلى الله تعالى في جميع أموره عامة، وفي بقاء استغنائه عن المال خاصة) .

وهذا المعنى أجل من أن يسمى فقرا، بل هو حقيقة العبودية، ولبها، وعزل النفس عن مزاحمة الربوبية وإليه يشير كلام المشايخ كما يأتي بيانه، فالفقر الحقيقي دوام الافتقار إلى الله تعالى في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقته إلى الله تعالى من كل وجه، فالفقر ذاتي للعبد وإنما يتجدد له شهوده حالا وإلا فهو حقيقة. كما قال بعضهم:


الفقر لي وصف ذات لازم أبدا كما الغنى أبدا وصف له ذاتي



وإليه أشار المصنف بقوله (فيكون اسم الفقر له كاسم العبد لمن عرف نفسه بالعبودية وأقر بها فإنه أحق باسم العبد من الغافلين، وإن كان اسم العبد عاما للخلق فكذلك اسم الفقير عام، ومن عرف نفسه بالفقر إلى الله تعالى) في كل حالاته، (فهو أحق باسم الفقير) من غيره (فاسم الفقير مشترك بين هذين المعنيين، وإذا عرفت هذا الاشتراك فهمت أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-) : اللهم إني (أعوذ بك من الفقر) وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات، رواه الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص.

وقد تقدم في الأذكار والدعوات، وعند النسائي من حديث أبي سعيد الخدري: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، فقال رجل: ويعتدلان؟ قال: نعم. وقد صححه ابن حبان، وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة: اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة. وروى الطبراني [ ص: 272 ] عن بلال بن سعد عن أبيه مرفوعا: اللهم إني أعيذهم بك من الكفر والضلالة والفقر الذي يصيب بني آدم.

(وقوله - صلى الله عليه وسلم -: كاد الفقر أن يكون كفرا) رواه الكشي وابن السكن وصاحب الحلية والبيهقي في الشعب، وابن عدي في الكامل من حديث يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا، وقد تقدم في ذم الغضب (لا يناقض قوله) - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا) واحشرني في زمرة المساكين، رواه عبد بن حميد، وابن ماجه من حديث أبي سعيد والشيرازي في الألقاب من حديث ابن عباس، والبيهقي في الشعب، وتمام والطبراني وابن عساكر والضياء من حديث عبادة بن الصامت، ورواه الترمذي وحسنه، والبيهقي من حديث أنس بزيادة يوم القيامة، ورواه ابن الجوزي في الموضوعات فأخطأ .

ورواه الحاكم من حديث أبي سعيد بزيادة: وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة، وعند أبي عدي والبيهقي بلفظ: اللهم توفني فقيرا لا توفني غنيا واحشرني في زمرة المساكين، فإن أشقى الأشقياء. الخ. (إذ فقر المضطر هو الذي استعاذ منه، والفقر الذي هو الاعتراف بالمسكنة والذلة والافتقار إلى الله تعالى هو الذي سأله في دعائه - صلى الله عليه وسلم - وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء) وإلى هذا المعنى يشير كلام المشايخ كما سيأتي ذلك مفرقا في سياق المصنف .

وهذا الذي يشيرون إليه لا تنافيه الجدة ولا الأملاك، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنبياؤه - عليهم السلام - في ذروة الفقر مع جدتهم وملكهم كإبراهيم - عليه السلام - كان يكنى أبا الضيفان، وكانت له الأموال والمواشي، وكذلك كان سليمان وداود - عليهما السلام - وكذلك كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: ووجدك عائلا فأغنى وكانوا أغنياء في فقرهم فقراء في غناهم .

ثم اعلم أن الفقر الذي هو خلو اليد من المال وسيلة التبتل والانقطاع وهما الوسيلة إلى الغنى بالله تعالى، وهو تعلق القلب به، والغنى بالله وسيلة إلى تجريده عما سوى الحق من أعراض وأغراض، بل نفس وحال، فالتجريد على ثلاث درجات:

الأولى: تجريد عين الكشف عن نسب اليقين، وذلك أن اليقين مكسوب في البداية وموهوب في النهاية، فالتجريد ارتقاء العبد من المكسوب إلى الموهوب .

الثانية: تجريد الجمع عن درك العلم; لأن العالم بالسكر ليس بسكران، فهذا حذر من أن يكون عنده علم الحال لا غيبه .

الثالثة: تجريد إخلاص عن شهود التجريد، ومقصود بذلك تجريده عن رؤية تجريده، وهذا التقسيم لصاحب "منازل السائرين" ولا يجب من ذلك الاعتقاد تجريد القدم عن الحدث، ويستحب علمه وما ذكرنا هو قربة ومعرفة، ومستعان بالنظر إلى صفات السلب مثل: قل هو الله أحد و ليس كمثله شيء وما كنت متخذ المضلين عضدا وما أشبه هذا، والله أعلم .




الخدمات العلمية