الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
السبب الرابع أن : يقصد العبد بترك التداوي استبقاء المرض لينال ثواب المرض بحسن الصبر على بلاء الله تعالى ، أو ليجرب نفسه في القدرة على الصبر ، فقد ورد في ثواب المرض ما يكثر ذكره ، فقد قال عليه السلام : نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى العبد على قدر إيمانه ، فإن كان صلب الإيمان شدد عليه البلاء ، وإن كان في إيمانه ضعف خفف عنه البلاء .

إن الله تعالى يجرب عبده بالبلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار ، فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز لا يزبد ، ومنهم دون ذلك ، ومنهم من يخرج أسود محترقا .

وفي حديث من طريق أهل البيت إن الله تعالى إذا أحب عبدا ابتلاه ، فإن صبر اجتباه فإن ، رضي اصطفاه .

وقال صلى الله عليه وسلم : تحبون أن تكونوا كالحمر الضالة لا تمرضون ولا تسقمون .

قال ابن مسعود رضي الله عنه تجد المؤمن أصح شيء قلبا وأمرضه جسما ، وتجد المنافق أصح شيء جسما وأمرضه قلبا فلما عظم الثناء على المرض والبلاء أحب قوم المرض واغتنموه لينالوا ثواب الصبر عليه فكان ، منهم من له علة يخفيها ولا يذكرها للطبيب ويقاسي العلة ويرضى بحكم الله تعالى ويعلم أن الحق أغلب على قلبه من أن يشغله المرض عنه ، وإنما يمنع المرض جوارحه وعلموا أن صلاتهم قعودا مثلا مع الصبر على قضاء الله تعالى أفضل من الصلاة قياما مع العافية والصحة ففي الخبر : إن الله تعالى يقول لملائكته : اكتبوا لعبدي الصالح ما كان يعمله فإنه في وثاقي إن أطلقته أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وإن توفيته توفيته إلى رحمتي .

وقال صلى الله عليه وسلم : أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس .

فقيل : معناه ما دخل عليه من الأمراض والمصائب وإليه الإشارة بقوله تعالى : وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وكان سهل يقول ترك التداوي وإن ضعف عن الطاعات ، وقصر عن الفرائض أفضل من التداوي لأجل الطاعات وكانت به علة عظيمة ، فلم يكن يتداوى منها وكان ، يداوي الناس منها وكان إذا رأى العبد يصلي من قعود ولا يستطيع أعمال البر من الأمراض فيتداوى للقيام إلى الصلاة والنهوض إلى الطاعات يعجب من ذلك ويقول : صلاته من قعود مع الرضا بحاله أفضل من التداوي للقوة والصلاة قائما .

وسئل عن شرب الدواء ، فقال : كل من دخل في شيء من الدواء فإنما هو سعة من الله تعالى لأهل الضعف ، ومن لم يدخل في شيء فهو أفضل ؛ لأنه إن أخذ شيئا من الدواء ولو كان هو الماء البارد يسأل عنه لم أخذه ومن ، لم يأخذ فلا سؤال عليه وكان مذهبه ومذهب البصريين تضعيف النفس بالجوع وكسر الشهوات لعلمهم بأن ذرة من أعمال القلوب مثل الصبر والرضا والتوكل أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح والمرض لا يمنع من أعمال القلوب إلا إذا كان ألمه غالبا مدهشا .

وقال سهل رحمه الله علل الأجسام رحمة الله وعلل القلوب عقوبة .

التالي السابق


(السبب الرابع: أن يقصد بترك التداوي استبقاء المرض لينال ثواب المرض بحسن الصبر على بلاء الله تعالى، أو ليجرب نفسه في القدرة على الصبر، فقد ورد في ثواب المرض ما يكثر ذكره، فقد قال صلى الله عليه وسلم: نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على قدر إيمانه، فإن كان صلب الإيمان شدد عليه البلاء، وإن كان في إيمانه ضعف خفف عنه البلاء) .

قال العراقي: رواه أحمد وأبو يعلى والحاكم، وصححه على شرط مسلم نحوه مع الاختلاف، وقد تقدم مختصرا، ورواه الحاكم أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص وقال: صحيح على شرط الشيخين اهـ . قلت: سياق حديث سعد بن أبي وقاص أقرب لسياق المصنف، وفيه: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة، كذا رواه الطيالسي وأحمد وعبد بن حميد، والدارمي والبخاري والترمذي وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، ويليه سياق حديث أبي سعيد: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس وما عليه خطيئة . رواه ابن حبان في صحيحه، وروى الطبراني من حديث فاطمة بنت اليمان أخت حذيفة: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل . ورواه أحمد بلفظ: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم . وقد تقدم ذكر بعض ذلك، (وفي الخبر: إن الله تعالى يجرب عبده بالبلاء، كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار، فمنهم من يخرج ذهبه كالإبريز، ومنهم دون ذلك، ومنهم من يخرج أسود محترقا) .

قال العراقي: ذكره صاحب الفردوس من حديث علي ولم يخرجه ولده في مسنده اهـ .

[ ص: 524 ] قلت: بل أخرجه الطبراني والحاكم في المستدرك من حديث أبي أمامة أن الله -عز وجل- ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به، كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار، فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز فذاك الذي حماه الله من الشبهات، ومنهم من يخرج كالذهب دون ذلك، فذلك الذي يشك بعض الشك، ومنهم من يخرج كالذهب الأسود، فذاك الذي قد افتتن، وقد صححه الحاكم وتعقبه الذهبي; لأن في سنده عفير بن معدان ضعيف . (وفي حديث من طريق أهل البيت: أن الله تعالى إذا أحب عبدا ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه) هذا لفظ القوت .

قال العراقي: رواه الطبراني من حديث ابن عيينة الخولاني بلفظ: إذا أراد الله بعبد خيرا ابتلاه، وإذا ابتلاه اقتناه، لا يترك له مالا ولا ولدا . وسنده ضعيف اهـ . قلت: ولفظه في الأوسط: إذا أحب الله عبدا ابتلاه، وإذا أحبه الحب البالغ اقتناه لا يترك له مالا ولا ولدا، ولفظه في الكبير: إن الله -عز وجل- إذا أراد بعبد خيرا ابتلاه، فإذا ابتلاه اقتناه، قالوا: يا رسول الله، وما اقتناه؟ قال: لم يترك له مالا ولا ولدا، ورواه ابن عساكر كذلك، وروى ابن أبي الدنيا في كتاب المرض والكفارات من حديث أبي سعيد بإسناد فيه لين: إن الله إذا أحب عبدا ابتلاه، وإذا ابتلاه صبره . (وقال صلى الله عليه وسلم: تحبون أن تكونوا كالحمر الصيالة) كذا في النسخ، وهو في معجم البغوي: الضالة من الضلال (لا تمرضون ولا تسقمون) .

قال العراقي: رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، وأبو نعيم وابن عبد البر في الصحابة، والبيهقي في الشعب من حديث أبي فاطمة، وهو صدر حديث: إن الرجل لتكون له المنزلة عند الله . . الحديث، وقد تقدم اهـ . قلت: قال البخاري: قال ابن أبي أويس: حدثني أخي عن حماد بن أبي حميد، عن مسلم بن عقيل مولى الزرقيين: دخلت على عبيد الله بن أبي إياس بن أبي فاطمة الضمري، فقال: يا أبا عقيل حدثني أبي عن جدي قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيكم يحب أن يصح فلا يسقم؟ قالوا: كلنا يا رسول الله، قال: أتحبون أن تكونوا كالحمر الصيالة؟ ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفارات؟ والذي نفسي بيده إن الله ليبتلي المؤمن بالبلاء وما يبتليه به إلا لكرامة عليه أو علة له; لأن له منزلة عنده ما يبلغه تلك المنزلة إلا ببلائه هكذا، أورده في ترجمة أبي عقيل، وفي لفظ: إن العبد لتكون له الدرجة في الجنة فما يبلغها بشيء من عمله فيبتليه الله بالبلاء ليبلغ تلك الدرجة، وما يبلغها بشيء من عمله، وقرأت في معجم الصحابة للبغوي: حدثني عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا داود بن منصور، حدثنا ابن سعد عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال عن أبي عقيل الزرقي، عن ابن أبي فاطمة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم يحب أن يصح ولا يسقم؟ قالوا: كلنا يحب أن يصح ولا يسقم، قال: أتحبون أن تكونوا كالحمير الضالة؟ إنما تكونوا أصحاب كفارات، إن العبد لتكون له الدرجة في الجنة فلا ينالها بشيء من عمله . (وقال ابن مسعود) -رضي الله عنه-: (نجد المؤمن أصح شيء قلبا وأمرضه جسما، وتجد المنافق أصح شيء جسما وأمرضه قلبا) ، رواه أبو نعيم في الحلية، حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا أبو يحيى الرازي، حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق، عن منذر قال: جاء ناس من الدهاقين إلى عبد الله بن مسعود، فتعجب الناس من غلظ رقابهم وصحتهم قال: فقال عبد الله: إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسما وأمرضهم قلبا، وتلقون المؤمن من أصح الناس قلبا وأمرضهم جسما وايم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان، (فلما عظم الثناء على المرض والبلاء أحب قوم المرض واغتنموه لينالوا ثواب الصبر عليه، وكان منهم) ، أي: من المتوكلين (من له علة يخفيها) عن الناس (ولا يذكرها للطبيب) ولو سأله (ويقاسي العلة ويرضى بحكم الله وتعالى) ; لأن المتوكل حاله الرضا، ومقتضى الرضا كتمان العلل وعدم التململ من اللأواء، (ويعلم أن الحق أغلب على قلبه من أن يشغله المرض عنه، وإنما يمنع المرض جوارحه) وقلبه في غاية من الاطمئنان والمعرفة، وكان في هذا المقام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-، (وعلموا أن صلاتهم قعودا مثلا مع الصبر على قضاء الله تعالى أفضل من الصلاة قائما مع العافية والصحة) .

قال الله تعالى: وبشر الصابرين ، وقال: إن الله يحب المتوكلين ، (ففي الخبر: إن الله تعالى يقول لملائكته: اكتبوا لعبدي صالح ما كان يعمله) في صحته (فإنه في وثاقي) ، أي: حبسي وقيدي (إن أطلقته) منه (أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه) قيل; لأنه قد طهر [ ص: 525 ] من المعاصي وكفر به عنه الخطايا، (وإن توفيته توفيته إلى رحمتي) ولا ذنب عليه، فإبدال صفته بحسن اختيار الله له في الدنيا والآخرة من حسن اختياره وشهوته .

قال العراقي: رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو، وقد تقدم . قلت: وقد روي ذلك من حديث أبي هريرة بلفظ: إذا مرض العبد بعث الله تعالى إليه ملكين فيقول: انظرا ما يقول لعواده: فإن هو إذا دخلوا عليه حمد الله رفعا ذلك إلى الله، وهو أعلم فيقول: لعبدي إن أنا توفيته أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدله لحما خيرا من لحمه، ودما خيرا من دمه، وأن أكفر عنه سيئاته . رواه الدارقطني في الغرائب، وابن صخر في عوالي مالك، وروى الطبراني، وابن عساكر من حديث أنس يقول الله تعالى: إذا ابتليت عبدي ببلاء فصبر لم يشكني إلى عواده، ثم أبرأته، أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وإن أرسلته أرسلته ولا ذنب عليه، وإن توفيته توفيته إلى رحمتي، وروى ابن عساكر عن مكحول مرسلا إذا مرض العبد يقال لصاحب الشمال: ارفع عنه القلم، ويقال لصاحب اليمين: اكتب له أحسن ما كان يعمل، فإني أعلم به، وأنا قيدته، قال صاحب القوت: ومن فضل تارك التداوي أن الملك يكتب له مثل أعماله الصالحة التي كان يعملها في الصحة، وأنه يجري له من الحسنات ما كان يجري له أعماله، فكتب الملك أعمالا صالحة خيرا له من أعماله; لأنها قد يدخلها الفساد، واختيار الله له أن يستعمله بالأوجاع خير من اختياره لنفسه أن يشتعل إلى الله بالأعمال الصالحة، (وقال صلى الله عليه وسلم: أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس) كذا في القوت .

قال العراقي: تقدم ولم أجده مرفوعا، (فقيل: معناه ما دخل عليها من الأمراض والمصائب) ولفظ القوت: قيل هو ما أدخل عليها من المصائب في الأنفس والأموال، فهي تكره ذلك، وهو خير لها (وإليه الإشارة بقوله: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم . وقال تعالى: ونقص من الأموال والأنفس ، يعني الأمراض والعلل، وهو نقصها من أوصافها وقواها وزيادة معانيها، وهو خير له إذا صبر، وفضل له إن شكر، ودرجات إذا رضي وتوكل، (وكان سهل) التستري (يقول) إن (ترك التداوي وإن ضعف عن الطاعات، وقصر) به (عن الفرائض أفضل من التداوي لأجل الطاعات) نقله صاحب القوت قال: (وكانت به علة عظيمة، فلم يكن يتداوى منها، و) قد (كان يداوي الناس منها) قال: (وكان) -رحمه الله تعالى- (إذا رأى العبد يصلي من قعود ولا يستطيع أعمال البر من الأمراض فيتداوى للقيام إلى الصلاة والنهوض إلى الطاعات يعجب من ذلك ويقول: صلاته من قعود مع) القصر و (الرضا بحاله أفضل من التداوي للقوة والصلاة قائما و) هذا معنى قوله، وقد (سئل عن شرب الدواء، فقال: كل من دخل في شيء من الدواء فإنما هو سعة من الله تعالى لأجل الضعف، ومن لم يدخل في شيء منه فهو أفضل; لأنه إن أخذ شيئا من الدواء ولو كان الماء البارد) على سبيل الدواء (سئل عنه لم أخذه، وإن لم يأخذ فلا سؤال عليه و) الأصل فيه أنه (كان مذهبه) -رحمه الله تعالى- (ومذهب) سائر المتوكلين (من البصريين تضعيف) قوة (النفس) وإسقاطها (بالجوع) والطي الكثير، (وكسر الشهوات) حتى لا يكون لها حراك لأجل الله; لأن عندهم أن قوة النفس قوة الشهوات وغلبة الصفات وحب لقاء الناس والاجتماع مع الخلق، وفي ذلك وجود المعاصي ودخول الآفات والهوى، وطول الرغبة والحرص على الدنيا، وحب البقاء، يقول: فإذا أدخل الله عليها الأمراض من حيث لا يحتسب فلا يتعالج لدفعها عنها، فإن المرض من نهاية الضعف، ومن أبلغ ما ينقص به الشهوة (لعلمهم بأن ذرة من أعمال القلوب مثل الصبر والرضا والتوكل أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح) بقوة الجسم هذا مذهبهم (والمرض لا يمنع من أعمال القلوب إلا إذا كان ألمه غالبا) عليه (مدهشا) له (و) لذلك (قال سهل) -رحمه الله تعالى-: (علل الأجسام رحمة وعلل القلوب عقوبة) ، وقال مرة: أمراض الجسم للصديقين، وأمراض القلب للمنافقين .




الخدمات العلمية