الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما كان المتوكلون يأخذون ما تستشرف إليه نفوسهم كان أحمد بن حنبل قد أمر أبا بكر المروزي أن يعطي بعض الفقراء شيئا فضلا عما كان استأجره عليه فرده فلما ولى قال له أحمد : الحقه وأعطه فإنه يقبل فلحقه وأعطاه فأخذه فسأل أحمد عن ذلك : فقال كان قد استشرفت نفسه فرد فلما خرج ، انقطع طمعه وأيس فأخذه وكان الخواص رحمه الله إذا نظر إلى عبد في العطاء ، أو خاف اعتياد النفس لذلك لم يقبل منه شيئا .

وقال الخواص بعد أن سئل عن أعجب ما رآه في أسفاره رأيت الخضر ورضي بصحبتي ولكني فارقته خيفة أن تسكن نفسي إليه ، فيكون نقصا في توكلي فإذا المكتسب إذا راعى آداب الكسب وشروط نيته ، كما سبق في كتاب الكسب وهو أن لا يقصد به الاستكثار ولم يكن اعتماده على بضاعته وكفايته كان متوكلا .

فإن قلت : فما علامة عدم اتكاله على البضاعة والكفاية ، فأقول : علامته أنه إن سرقت بضاعته ، أو خسرت تجارته ، أو تعوق أمر من أموره كان راضيا به ولم تبطل طمأنينته ، ولم يضطرب قلبه ، بل كان حال قلبه في السكون قبله وبعده واحدا فإن من لم يسكن إلى شيء لم يضطرب لفقده ، ومن اضطرب لفقد شيء فقد سكن إليه وكان بشر يعمل المغازل فتركها وذلك ، لأن البغدادي كاتبه قال : بلغني أنك استعنت على رزقك بالمغازل ، أرأيت إن أخذ الله سمعك وبصرك الرزق على من ؟ فوقع ذلك في قلبه فأخرج آلة المغازل من يده وتركها وقيل تركها لما نوهت باسمه وقصد لأجلها وقيل فعل ذلك لما مات عياله ، كما كان لسفيان خمسون دينارا يتجر فيها ، فلما مات عياله فرقها .

التالي السابق


ثم قال: (وما كان المتوكلون يأخذون ما تستشرف إليه نفوسهم) ؛ لأن فيه طمعا في غير مطمع، ونظرا إلى غير الله تعالى، وإتيانا للبيوت من غير أبوابها،، وقد شرط النبي -صلى الله عليه وسلم- للعطاء ترك المسألة والاستشراف إلى الخلق تنزيها للفقراء، وردا لهم إلى الله عز وجل، ولما منعوا منهما جعل لهم هذا العطاء، وبذلوا إلى قبوله عوضا لهم عنها، كما جعل للإشراف خمس الخمس من الغنائم لما حرمت عليهم الصدقة؛ تشريفا لهم وتفضيلا، وقد (كان أحمد بن حنبل) -رحمه الله تعالى- (قد أمر) صاحبه (أبا بكر المروزي) نسبة إلى مرو الروز، مدينة بخراسان، والنسبة على الاختصار (أن يعطي بعض الفقراء شيئا فضلا عما كان استأجره عليه) فأعطاه (فرده) ولم يأخذه (فلما ولى) الفقير بظهره ومشى (قال له أحد: الحقه فأعطه فإنه يقبل) الآن (فلحقه فأعطاه فأخذه فسأل) المروزي (أحمد عن ذلك) أي: كيف رد في الأول، وأخذ في الثاني (فقال) إنه (كان قد استشرفت نفسه) لذلك (فرد، وكان قد أحسن) فلما خرج منصرفا (انقطع طمعه وأيس فأخذه) لذلك كذا في القوت، وللعارفين في ذلك أحوال متفاوتة، فقد كان بعضهم من المتوكلين، كذلك إذا جاءه السبب بعد تطلع إليه رده، ومنهم من كان يأخذه، فيخرجه، ولا يتناول منه عقوبة لنفسه، وتأدبا لها، (وكان) إبراهيم (الخواص) -رحمه الله تعالى- (إذا نظر إلى عبد في العطاء، أو خاف اعتياد النفس لذلك لم يقبل منه شيئا) نقله صاحب القوت، قال: وحدثني شيخ عن رجل دفع إليه دينارا بمكة، وهو لا يعرفه فقبله، فلما كان الغد، رأى حوله جماعة من الفقراء، فسأل عنه، فقيل إبراهيم الخواص، فجاءه بالتسعة الأخر، وكان قد أعد العشرة له فلم يقبل، وقال: صوفي لا يكون بحريف .

(وقال الخواص) -رحمه الله تعالى- (بعد أن سئل عن أعجب ما رآه في أسفاره) ، وكان كثير الأسفار في البوادي المنقطعة، والطرق المجهولة فقال: (رأيت الخضر ورضي بصحبتي ولكني فارقته خشية أن تسكن نفسي إليه، فيكون نقصا في توكلي) ، فكان لقبه للخضر امتحانا له من الله تعالى به، في دعوى مقام التوكل، فتثبت وإلا فالخضر مستغن عن صحبته لكمال قوته، وهذا القول أخرجه القشيري في الرسالة قال: وسمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت منصور بن أحمد يقول: حكى لنا ابن أبي الشيخ قال: سمعت عمر بن سنان يقول: اجتاز بنا إبراهيم الخواص، فقلنا له: حدثنا بأعجب ما رأيت في أسفارك فقال: لقيني الخضر فسألني، فخشيت أن يفسد علي توكلي لسكوني إليه ففارقته، (فإذا المكتسب إذا راعى آداب الكسب وشروط نيته، كما سبق في كتاب) آداب (الكسب) والمعاش، (ولم يقصد به الاستكثار) والادخار (ولم يكن اعتماده على بضاعته وكفايته كان متوكلا) قال الخواص: دخول الآفات ومساكنتها القصور علم أو غلبة هوى يخرج العبد من التوكل، وهو أن يكون متوكلا على الناس بأن يطمع فيهم، أو يتصدى لهم بالتعرض والتصنع، أو يكون متوكلا على صحة جسمه ودوام قوته، وأنه لا يرزق إلا من كده، أو يكون متوكلا على ماله بأن يثق به، أو يطمئن إليه، ويحسب أنه إن افتقر انقطع رزقه، أو يكون متوكلا على جاهه ومنزلته عند الناس، أو على ديانته، وأنه معروف بالصلاح، أو على أنه لا يرزق إلا من أجل تقواه ونحوه، بأن يتوكل على علمه، وما يعرف الناس من فضله، فهذه المعاني كلها تخرج من كل التوكل، وقد تخفى دقائقها وتدق خفاياها، ويقع الوهم بمن وقعت به أنه من المتوكلين على الوكيل، أو الناظرين إلى القريب الكفيل، وإنما يفطن لذلك جهابذة العلماء الراسخون، وسماسرة الصادقين الزاهدون المتصفون بالعلم المنورون باليقين، القائمون على الدوام بالشهادة، الناكبون عن مألوف النفس والعادة، فمن نظر إلى هذه المعاني من الأسباب والأشخاص، أو سكن إليها سكون أنس، فيقوى قلبه بوجودها، فإنه يضطرب ويستوحش، أو يضعف قلبه لفقدها، وذلك كله علة في توكله (فإن قلت: فما علامة عدم اتكاله على البضاعة والكفاية، فأقول: علامته أنه إن سرقت [ ص: 485 ] بضاعته، أو خسرت تجارته، أو تعوق أمر من أموره كان راضيا به) مشاهدا فعل مولاه به (ولم تبطل طمأنينته، ولم يضطرب قلبه، بل كان حال قلبه في السكون قبله وبعده واحدا) على السواء، (فإن لم يسكن إلى شيء) سكون أنس (لم يضطرب بفقده، ومن اضطرب لفقد شيء فقد سكن إليه) وأنس به، وإليه يشير قول الشاعر:


ومن سره أن لا يجد ما يسوؤه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا

أي لا يسكن إلى شيء هو يفقد عنه فيضطرب قلبه لفقده، (و) قد (كان بشر) بن الحارث الحافي -رحمه الله تعالى- يتكلم في الحلال، ويشدد فيه، فقيل: يا أبا نصر فأنت من أين تأكل؟ فقال: من حيث تأكلون، ولكن ليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهو يضحك وقال مرة: ولكن يد أقصر من يد، ولقمة أصغر من لقمة، وكان -رحمه الله تعالى- (يعمل المغازل) يتسبب بها (فتركه) أي: العمل، وفي نسخة: فتركها، أي المغازل، (وذلك) ، أي: كان سبب تركه؛ (لأن البغدادي) هكذا في النسخ بالغين المعجمة، وفي أخرى بالقاف، ولم يتضح لي وجه الصواب فيه، وإلى أي شيء ينسب، ولا عرفت هذا الرجل (كاتبه قال: بلغني أنك استعنت على رزقك بالمغازل) ، أي: بصنعتها وبيعها (أرأيت إن أخذ الله سمعك وبصرك الرزق على من؟ فوقع) ، وفي نسخة: فوقر (ذلك في قلبه) بشاهد منه (فأخرج آلة المغازل من يده وتركها) ، وترك التكسب بها، كذا في القوت .

(وقيل) : بل (تركها لما نوهت باسمه وقصد لأجلها) وطلبت لأجله فقيل: المغازل البشرية كذا في القوت، وقيل: فأي هذين كان قد أنهج له طريق سلكه بعد الطريق الأول .

(وقيل) : بل (فعل ذلك لما مات عياله) ، أي: زوجته وأولاده، فإنه ما كان أبيح له التكسب إلا لأجلهم، (كما كان لسفيان) الثوري -رحمه الله تعالى- (خمسون دينارا يتجر فيها، فلما مات عياله فرقها) ولفظ القوت: وقد كان للثوري خمسون دينارا يتجر له بها، ثم أخذها في آخر أمره ففرقها على إخوانه، وترك التكسب، ويقال: إنه فعل ذلك لما مات عياله، وكان قد بقي بعدهم وحيدا، وقال زافر بن سليمان: كان لسفيان عندي ثلاثمائة درهم بضاعة ، فكنت أبضع له بها، فقال ذات يوم: هاتها، فجعلها صررا وقسمها. انتهى .

وقد تقدم عن سهل أيضا أنه كان له أرض يزرعها في آخر أمره، باعها وفرق ثمنها على المساكين .




الخدمات العلمية