الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولفظ القدر بإزاء التفصيل المتمادي إلى غير نهاية وقيل : إن شيئا من ذلك ليس خارجا عن القضاء والقدر فخطر لبعض العباد أن القسمة لماذا اقتضت هذا التفصيل ، وكيف انتظم العدل مع هذا التفاوت والتفضيل ، وكان بعضهم لقصوره لا يطيق ملاحظة كنه هذا الأمر والاحتواء : على مجامعه فألجموا عما لم يطيقوا خوض غمرته بلجام المنع وقيل لهم اسكنوا فما لهذا خلقتم لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وامتلأت مشكاة بعضهم نورا مقتبسا من نور الله تعالى في السموات والأرض وكان زيتهم أولا صافيا يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار فمسته نار فاشتعل نورا على نور فأشرقت أقطار الملكوت بين أيديهم بنور ربها فأدركوا الأمور كلها كما هي عليه فقيل لهم تأدبوا بآداب الله تعالى واسكنوا ، وإذا ذكر القدر فأمسكوا فإن للحيطان آذانا وحواليكم ضعفاء الأبصار فسيروا بسير أضعفكم ولا تكشفوا حجاب الشمس لأبصار الخفافيش فيكون ذلك سبب هلاكهم فتخلقوا بأخلاق الله تعالى وانزلوا إلى سماء الدنيا من منتهى علوكم ليأنس بكم الضعفاء ويقتبسوا من بقايا أنواركم المشرقة من وراء حجابكم كما يقتبس الخفافيش من بقايا نور الشمس والكواكب في جنح الليل فيحيا به حياة يحتملها شخصه وحاله وإن كان لا يحيا به حياة المترددين في كمال نور الشمس وكونوا كمن قيل فيهم .


شربنا شرابا طيبا عند طيب كذلك شراب الطيبين يطيب     شربنا وأهرقنا على الأرض فضلة
وللأرض من كأس الكرام نصيب

فهكذا كان أول هذا الأمر وآخره ولا تفهمه إلا إذا كنت أهلا له ، وإذا كنت أهلا له فتحت العين وأبصرت فلا تحتاج إلى قائد يقودك والأعمى يمكن أن يقاد ولكن حد ما ، فإذا ضاق الطريق وصار أحد من السيف وأدق من الشعر قدر الطائر على أن يطير عليه ولم يقدر على أن يستجر وراءه أعمى .

التالي السابق


(ولفظ القدر بإزاء التفضيل المتمادي إلى غير نهاية) فالقضاء أخص من القدر (وقيل: إن شيئا من ذلك ليس خارجا عن القضاء والقدر) ، وقال المصنف في "المقصد الأسنى": معنى الحكمة ترتيب الأسباب وتوجيهها إلى المسببات وهو تعالى الحكيم المطلق، لأنه سبب كل الأسباب جملتها وتفصيلها، ومن الحكم يتشعب القضاء والقدر، فتدبيره أصل وضع الأسباب لتتوجه إلى المسببات هو حكمه وإيجاده للأسباب الكلية الأصلية الثابتة المستقرة التي لا تحول ولا تزول إلى وقت معلوم، ووضعه إياها ونصبه لها هو قضاؤه، وتوجيه هذه الأسباب بحركاتها المتناسبة المحدودة المقدرة المحسوبة إلى المسببات الحادثة منها لحظة بعد لحظة هو قدره، فالحكم هو التدبير الأولي الكلي، والأمر الأزلي الذي هو كلمح البصر، والقضاء هو الوضع الكلي للأسباب الكلية الدائمة، والقدر هو توجيهه الأسباب الكلية بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة المحدوة بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص، ولذلك لا يخرج شيء عن قضائه وقدره .

(فخطر لبعض العباد أن القسمة لماذا اقتضت هذا التفصيل، وكيف انتظم العدل مع هذا التفاوت والتفصيل، وكان بعضهم لقصوره) في العرفان (لا يطيق ملاحظة كنه هذا الأمر والاحتواء) أي: الاشتمال، وفي نسخة: الاحتراز من الحوز والمعنى واحد (على مجامعه فألجموا عما لم يطيقوا خوض غمرته) وهي معظم الماء (بلجام المنع وقيل لهم) بلسان الحال: (اسكنوا فما لهذا خلقتم) فلا تخوضوا فيه، قال الله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) ففيه إشارة إلى هذا الإلجام، (وامتلأت مشكاة بعضهم نورا مقتبسا من نور الله تعالى) المنتشر ضياؤه (في السموات والأرض) يشير إلى قوله تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح الآية، والمشكاة هي الكوة في الحائط يوضع فيها المصباح (وكأن زيتهم) وهو الاستعداد (أولا صافيا) من كدورات الأوهام (يكاد يضيء) أي: يشعل لكمال صفائه، (ولو لم تمسسه نار) بعد (فمسته نار فاشتعل نورا على نور فأشرقت أقطار الملكوت) وهو عالم الغيب المختص (بين أيديهم بنور ربها) يشير إلى قوله تعالى: وأشرقت الأرض بنور ربها ، (فأدركوا الأمور كلها كما هي عليها) بكنهها وحقيقتها (فقيل لهم تأدبوا بآداب الله واسكنوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا) وهو بعض حديث ابن مسعود، رواه الطبراني وأبو نعيم وابن صصرى في أماليه وحسنه بلفظ: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا"، ورواه الطبراني أيضا من حديث ثوبان وابن عدي من حديث عمر، ولم يصرح المصنف بكونه حديثا، وقد تقدم في كتاب العلم (فإن للحيطان آذانا) وهو مثل مشهور (وحواليكم ضعفاء الأبصار فسيروا بسير أضعفكم ولا تكشفوا حجاب الشمس لأبصار الخفافيش) ، فإنهم لا يطيقون (فيكون ذلك سبب هلاكهم فتخلقوا بأخلاق الله تعالى) وتحلوا بمعاني صفاته وأسمائه بقدر ما يتصور في حقكم (وانزلوا إلى السماء الدنيا من منتهى علوكم ليأنس بكم الضعفاء ويقتبسوا من بقايا أنواركم المشرقة من وراء حجابكم كما تقتبس الخفافيش من بقايا نور الشمس والكواكب في جنح الليل) وهو ظلامه واختلاطه (فيحيا به حياة يحتملها شخصه وحاله وإن كان لا يحيا به حياة المترددين في كمال نور الشمس فكانوا) ، وفي نسخة: وكانوا (كما قيل) :


( شربنا شرابا طيبا عند طيب كذلك شراب الطيبين يطيب شربنا وأهرقنا على الأرض فضلة )

أي: سكبنا عليها ما فضل منها

( وللأرض من الكأس الحرام نصيب

فهكذا كان أول الأمر وآخره فلا تفهمه إلا إذا كنت أهلا له، وإذا كنت أهلا له) وسعادتك العناية (فتحت العين وأبصرت) الطريق (فلا تحتاج إلى قائد يقودك) [ ص: 75 ] وهو المرشد (والأعمى يمكن أن يقاد ولكن إلى حد ما، فإذا ضاق الطريق وصار أحد من السيف وأدق من الشعر قدر الطائر على أن يطير عليه و) لكن لم يقدر على أن يستجر وراءه أعمى لضيق الطريق .




الخدمات العلمية