الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الأسباب الباطنة فهي أشد فإن من تشعبت به الهموم في أودية الدنيا لا ينحصر فكره في فن واحد بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب وغض البصر لا يغنيه فإن ما وقع في القلب من قبل كاف للشغل فهذا طريقه أن يرد النفس قهرا إلى فهم ما يقرؤه في الصلاة ويشغلها به عن غيره ، ويعينه على ذلك أن يستعد له قبل التحريم بأن يجدد على نفسه ذكر الآخرة وموقف المناجاة وخطر المقام بين يدي الله سبحانه وهو المطلع ويفرغ قلبه قبل التحريم بالصلاة عما يهمه فلا يترك لنفسه شغلا يلتفت إليه خاطره .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي شيبة إني نسيت أن أقول لك أن : تخمر القدر الذي في البيت فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل الناس عن صلاتهم فهذا طريق تسكين الأفكار .

فإن كان لا يسكن هوائج أفكاره بهذا الدواء المسكن فلا ينجيه إلا المسهل الذي يقمع مادة الداء من أعماق العروق وهو أن ينظر في الأمور الصارفة الشاغلة عن إحضار القلب ولا شك أنها تعود إلى مهماته وأنها إنما صارت مهمات لشهواته فيعاقب نفسه بالنزوع عن تلك الشهوات وقطع تلك العلائق فكل ما يشغله عن صلاته فهو ضد دينه وجند إبليس عدوه فإمساكه أضر عليه من إخراجه فيتخلص منه بإخراجه كما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما لبس الخميصة التي أتاه بها أبو جهم وعليها علم وصلى بها نزعها بعد صلاته وقال صلى الله عليه وسلم : اذهبوا بها إلى أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي وائتوني ، بأنبجانية أبي جهم .

التالي السابق


(وأما الأسباب [ ص: 128 ] الباطنة فهي أشد) تأثيرا في القلب، وأكثر رسوخا، وأبعد زوالا وذهابا، (فإن من تشعبت به الهموم) أي: تفرقت وتشتت، (في أودية الدنيا) وشعابها (لم ينحصر فكره في فن واحد) ، أي: نوع واحد، وأورد صاحب القوت حديثا مرفوعا: "من تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي أوديتها هلك". (بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب) ، ومن فن إلى فن، فتارة هو بالمشرق إذا هو قد ذهب إلى المغرب، وبالعكس (وغض البصر) ، وكفه عن مخيلاته (لا يغنيه في ذلك) ولا يجديه نفعا، ولو تكلف (فإن ما وقع في القلب من قبل) ، وتمكن فيه ورسخ (كاف للشغل) ، وفي نسخة: في الشغل، (فهذا) يصعب علاجه، ويطول مراسه في إنجاع الدواء فيه، و (طريقه أن يرد النفس قهرا) عنها (إلى فهم ما يقرؤه في الصلاة) من القرآن والتسبيح والتحميد، والتعوذ والثناء، (ويشغلها به عن غيره، ويعينه على ذلك أن يستعد له) ، أي: يتهيأ، (قبل التحريم) ، وفي نسخة: التحرم، أي: بالصلاة، (بأن يجدد على نفسه ذكر الآخرة) وأمورها وأحوالها، (وموقف المناجاة) خاصة، وبماذا يناجيه (وخطر المقام) ، أي: عظمه (بين يدي الله تعالى) ، ولا مال ولا بنون ولا مساعد ولا معين، (وهو المطلع) هو مفتعل اسم مفعول، موضع الاطلاع من المكان المرتفع على المنخفض شبه ما يشرف عليه من أمور الآخرة بذلك، (ويفرغ قلبه) تفريغا (قبل التحرم بالصلاة عما يهمه) ويشغله (ولا يترك لنفسه شغلا يلتفت إليه خاطره) مطلقا، (قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعثمان بن شيبة) ، هكذا هو في سائر النسخ، (إني نسيت أن أقول لك: تخمر القرنين اللذين في البيت) ، وفي بعض النسخ: القدير الذي في البيت، وهو غلط، فإن القدر بالكسر مؤنثة ويقال في تصغيرها قديرة بالهاء لا قدير، وفي نسخة أخرى: القدر الذي، وهو أيضا غلط، والمراد بالبيت بيت الله الحرام بمناسبة أن راويه هو عثمان حاجب البيت، والتخمير: التغطية، (فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل الناس عن صلاتهم) .

قال العراقي: رواه أبو داود من حديث عثمان الحجبي، وهو عثمان بن طلحة، كما في مسند الإمام أحمد، ووقع للمصنف أنه قاله لعثمان بن شيبة، وهو وهم. اهـ .

قلت: لم أجد هذا الحديث في ترجمة عثمان بن طلحة في المسند، فلعله ذكره في موضع آخر، ورأيت بخط الحافظ ابن حجر قال: صوابه عثمان بن شيبة. اهـ .

قلت: إن كان عثمان يكنى أبا شيبة فهو كما ذكر، وارتفع الخلاف .

وأما عثمان الحجبي الذي هو عثمان بن طلحة عند الإمام أحمد، فهو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار العبدري القرشي حاجب البيت، أسلم في هدنة الحديبية، وشهد فتح مكة، وله صحبة، روى عنه ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وله صحبة أيضا، وقتل أبوه عثمان وعمه طلحة يوم أحد كافرين، وقد سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- المفتاح لعثمان وشيبة، وقال لهما: "خذاه خالدة تالدة فيكم لا ينزعه عنكم إلا شقي"، أو كما قال. فكانا يتشاركان في تولية المفتاح، فلما مات عثمان استقل شيبة به، ولم يزل إلى يومنا هذا في أولاد شيبة، وعرف أولاده بالشيبيين، فأول شيبة لهم هو هذا، ولم يكونوا يعرفون قبل هذا إلا ببني عبد الدار، والله أعلم .

(فهذا طريق تسكين الأفكار) الهائجة (فإن كان هائج أفكاره لا يسكن بهذا الدواء المسكن) للغليان النفسي (فلا ينجيه) لا يخلصه (إلا المسهل) ، هو كمكرم اسم للدواء (الذي) يسهل الأخلاط بسرعة و (يقمع مادة الداء من أعماق العروق) ، أي: من خوافيها، (وذلك بأن ينظر في الأمور الشاغلة الصارفة له عن إحضار القلب) ما هي، (ولا شك في أنها) إذا تأمل فيها يجدها (تعود إلى مهماته) الدنيوية، (وأنها إنما صارت مهمة لشهواته) ، أي: لأجل أن يعطي للنفس مناها، (فيعاقب نفسه بالنزوع عن تلك الشهوات) والخروج عنها، (وقطع تلك العلائق) الحسية والمعنوية، (فكل ما يشغله عن صلاته فهو ضد دينه) ، أي: مضاد لدينه، (وجند إبليس عدوه) بعثهم لإيقاع الخلل بالصلاة، (فإمساكه) أي: ذلك الأمر (أضر عليه) ، أي: أكثر ضررا (من إخراجه) ، أي: وإن إخراجه فيه ضرر أيضا، وهو مخالفة النفس والهوى، والتجنب عن أنواع الملاذ والملاهي، ففيه في الظاهر ضرر، لكن إمساكه أضر من ذلك لأنه [ ص: 129 ] يترتب عليه فساد دينه، (كما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- لما لبس الخميصة) ، وهي كساء أسود مربع (التي أتى بها) ، وفي نسخة: أتاه بها (أبو جهم) عامر بن حذيفة العدوي القرشي المدني أسلم يوم الفتح، وتوفي في آخر خلافة معاوية، (وعليها علم وصلى بها نزعها بعد صلاته) ، وفي بعض النسخ: في بعض صلاته، (وقال: اذهبوا بها إلى أبي جهم فإنها) ، أي: الخميصة (ألهتني) ، أي: شغلتني (آنفا) أي: قريبا (عن صلاتي، وأتوني بأنبجانية أبي جهم) بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الموحدة وتخفيف الجيم، وبعد النون ياء نسبة مشددة، كساء غليظ لا علم له، ويجوز كسر الهمزة، وفتح الموحدة وتخفيف المثناة. قال صاحب المطالع: نسبة إلى منبج موضع بالشام، أي: على غير قياس، ويقال: اسم الموضع أنبجان، ونقل عن ثعلب.

قال العراقي: متفق عليه من حديث عائشة، وقد تقدم في العلم، اهـ .

قلت: أخرجه البخاري في موضعين من كتاب الصلاة، الأول في باب: إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي". وقال هشام عن أبيه عن عائشة : قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة، فأخاف أن تفتنني".

قلت: وهذا التعليق رواه مسلم وغيره بالمعنى الثاني في باب الالتفات في الصلاة، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان عن الزهري، عن عروة عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صلى في خميصة لها أعلام، فقال: شغلتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانيته" اهـ .

وعند مالك في الموطأ: "فإني نظرت إلى علمها في الصلاة، فكاد يفتنني"، فيحمل قوله: ألهتني على قوله: كاد، فيكون الإطلاق للمبالغة في القرب لتحقق وقوع الإلهاء، لا يقال: إن المعنى شغلتني عن كمال الحضور في صلاتي؛ لأنا نقول قوله في الرواية المعلقة، فأخاف أن يفتنني يدل على نفي وقوع ذلك، وقد يقال: إن له -صلى الله عليه وسلم- حالتين؛ حالة بشرية، وحالة يختص بها خارجة عن ذلك، فبالنظر إلى الحالة البشرية، قال: ألهتني، وبالنظر إلى الحالة الثانية لم يجزم به، بل قال: أخاف، ولا يلزم من ذلك الوقوع ونزع الخميصة، ليستن به في ترك كل شاغل، وليس المراد أن أبا جهم يصلي في الخميصة؛ لأنه عليه السلام لم يكن ليبعث إلى غيره مما يكرهه لنفسه، فهو كإهداء الحلة لعمر بن الخطاب مع تحريم لباسها عليه لينتفع بها ببيع أو غيره، واستنبط من الحديث الحث على حضور القلب في الصلاة، وترك ما يؤدي إلى شغله، وفي إعادة البخاري الحديث في كراهة الالتفات إشارة إلى أنه لا يشترط في الالتفات إدارة البصر يمنة ويسرة، بل بمجرد وقوع البصر على شيء يلهيه يعد التفاتا، ألا ترى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "شغلتني أعلامها"، ولم يكن ذلك إلا بوقوع البصر عليها، فتأمل في دقة نظر البخاري رحمه الله تعالى، وبه يظهر أن غض البصر له دخل كبير في ترك الالتفات، والله أعلم .




الخدمات العلمية