الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبالجملة جميع محاسن الدين ومكارم الأخلاق ثمرة الحب وما لا يثمره الحب فهو اتباع الهوى ، وهو من رذائل الأخلاق .

نعم قد يحب الله لإحسانه إليه ، وقد يحبه لجلاله وجماله وإن لم يحسن إليه .

والمحبون لا يخرجون عن هذين القسمين ولذلك قال الجنيد الناس في محبة الله تعالى عام وخاص ؛ فالعوام نالوا ذلك بمعرفتهم في دوام إحسانه وكثرة نعمه ، فلم يتمالكوا أن أرضوه إلا أنهم تقل محبتهم وتكثر على قدر النعم والإحسان فأما الخاصة فنالوا المحبة بعظم القدر والقدرة والعلم والحكمة والتفرد بالملك .

ولما ؛ عرفوا صفاته الكاملة وأسماءه الحسنى لم يمتنعوا أن أحبوه إذ استحق عندهم المحبة بذلك ؛ لأنه أهل لها ، ولو أزال عنهم جميع النعم نعم من الناس من يحب هواه .

وعدو الله إبليس ، وهو مع ذلك يلبس على نفسه بحكم الغرور والجهل فيظن أنه محب لله عز وجل ، وهو الذي فقدت فيه هذه العلامات أو يلبس بها نفاقا ورياء وسمعة وغرضه عاجل حظ الدنيا ، وهو يظهر من نفسه خلاف ذلك كعلماء السوء وقراء السوء أولئك بغضاء الله في أرضه .

وكان سهل إذا تكلم مع إنسان قال : يا دوست أي يا حبيب فقيل له : قد لا يكون حبيبا فكيف تقول هذا ؟! فقال في أذن القائل سرا لا يخلو إما أن يكون مؤمنا ، أو منافقا فإن كان مؤمنا فهو حبيب الله : عز وجل ، وإن كان منافقا فهو حبيب إبليس وقد قال أبو تراب النخشبي في علامات المحبة أبياتا .


لا تخدعن فللحبيب دلائل ولديه من تحف الحبيب وسائل     منها تنعمه بمر بلائه
وسروره في كل ما هو فاعل     فالمنع منه عطية مقبولة
والفقر إكرام وبر عاجل     ومن الدلائل أن ترى من عزمه
طوع الحبيب وإن ألح العاذل     ومن الدلائل أن يرى متبسما
والقلب فيه من الحبيب بلابل     ومن الدلائل أن يرى متفهما
لكلام من يحظى لديه السائل     ومن الدلائل أن يرى متقشفا
متحفظا من كل ما هو قائل

وقال يحيى بن معاذ .


ومن الدلائل أن تراه مشمرا     في خرقتين على شطوط الساحل
ومن الدلائل حزنه ونحيبه     جوف الظلام فما له من عاذل
ومن الدلائل أن تراه مسافرا     نحو الجهاد وكل فعل فاضل
ومن الدلائل زهده فيما يرى     من دار ذل والنعيم الزائل
ومن الدلائل أن تراه باكيا     أن قد رآه على قبيح فعائل
ومن الدلائل أن تراه مسلما     كل الأمور إلى المليك العادل
ومن الدلائل أن تراه راضيا     بمليكه في كل حكم نازل
ومن الدلائل ضحكه بين الورى     والقلب محزون كقلب الثاكل

.

التالي السابق


(وبالجملة جميع محاسن الدين ومكارم الأخلاق ثمرة الحب وما لا يثمره الحب فهو اتباع للهوى، وهو من رذائل الأخلاق، نعم قد يحب الله لإحسانه إليه، وقد يحبه لجلاله وجماله وإن لم يحسن إليه، والمحبون لا يخرجون عن هذين القسمين) ، والقسم الثاني أفضل وأعلى لتعلقها بالذات والصفات من كلا طرفيها، وهو السلب والإثبات وما قبلهما، وهو القسم الأول متعلقة بالله من حيث قدرته على الإنعام والإحسان، ففيها شغل عن الله، والمحبة الناشئة عن الجمال والجلال من أشرف نعم الله على العباد؛ لأنها تعريف له بما هو به وتقريب منه، إلا أن المقصود يصير كامنا تحت أشعة الأفضل إذا امتلأ القلب بالأفضل ويكون الحكم والجزاء للغالب (ولذلك قال الجنيد) -قدس سره- (الناس في محبة الله تعالى عام وخاص؛ فالعوام نالوا ذلك بمعرفتهم في دوام إحسانه وكثرة نعمه، فلم يتمالكوا أن أرضوه إلا أنهم تقل محبتهم وتكثر على قدر التنعم والإحسان) ؛ لأن الإحسان يزيد وينقص (فأما الخاصة فنالوا المحبة بعظم القدر والقدرة والعلم والحكمة والتفرد بالملك؛ فلما عرفوا صفاته الكاملة وأسماءه الحسنى) وتخلقوا بها قدر طاقتهم (لم يمتنعوا أن أحبوه إذا استحق عندهم المحبة بذلك؛ لأنه أهل لها، ولو أزال عنهم جميع النعم) ، وإليه يشير قول رابعة رحمها الله تعالى:

وحب لأنك أهل لذاك

(نعم من الناس من يحب هواه وعدو الله إبليس، وهو مع ذلك يلبس على نفسه بحكم الغرور والجهل فيظن أنه محب لله عز وجل، وهو الذي فقدت فيه هذه العلامات) التي ذكرت (أو يلبس بها نفاقا ورياء وسمعة وغرضه عاجل حظ الدنيا، وهو يظهر من نفسه خلاف ذلك كالعلماء السوء والقراء السوء) الذين يأكلون الدنيا بالدين (أولئك بغضاء [ ص: 637 ] الله في أرضه) فهم عن محبة الله بمعزل، (وكان سهل) التستري -رحمه الله تعالى- (إذا تكلم مع إنسان قال: يا دوست) بضم الدال المهملة وسكون الواو والسين المهملة والتاء، فارسية (أي حبيب) من ذلك عوتب مرة في العلة التي كانت به، وكان يداوي الناس منها ولا يداوي نفسه، فقيل له في ذلك، فقال: يا دوست، ضرب الحبيب لا يوجع، كما نقله صاحب القوت (فقيل له: قد لا يكون حبيبا فكيف تقول هذا؟!) ، أي: كيف تقول لكل من تخاطبهم بهذا اللفظ، وقد لا يكون بعضهم ممن يتصف بالمحبة (فقال في أذن القائل سرا) هذا الذي أقول له: يا دوست (لا يخلو إما أن يكون مؤمنا، أو منافقا) يكتم إيمانه (فإن كان مؤمنا فهو حبيب الله -عز وجل-، وإن كان منافقا فهو حبيب إبليس) فهو على كل حال يصح أن يطلق عليه هذا اللفظ، وهذا نظير ما كان يقول لنا شيخنا المرحوم لقطب السيد عبد الله بن إبراهيم الحسيني نزيل الطائف -قدس سره- في معنى قوله -عز وجل-: أعددت لعبادي الصالحين، أي الثواب والعقاب؛ إذ كل منهما صالح إما للثواب، فله منه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وأما للعقاب فله منه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت (وقال أبو تراب) عسكر بن حصين (النخشبي) -رحمه الله تعالى- (في علامات المحبة) ودلائلها الخاصة (أبياتا وهي هذه) من مشطور الرجز: (

لا تخدعن فللحبيب دلائل ولدنه من تحف الحبيب رسائل
منها تنعمه بمر بلائه وسروره في كل ما هو فاعل
فالمنع منه عطية مقبولة والفقر إكرام وبر عاجل
ومن الدلائل أن يرى في غرمه طوع الحبيب وإن ألح العاذل
ومن الدلائل أن يرى متبسما والقلب فيه من الحبيب بلابل
ومن الدلائل أن يرى متفهما لكلام من يحظى لديه السائل
ومن الدلائل أن يرى متقشفا متحفظا من كل ما هو قائل )

(وقال يحيى بن معاذ) الرازي -رحمه الله تعالى- في هذا المعنى إلا أنه أخفض القافية: (

ومن الدلائل أن تراه مشمرا في خرقتين على شطوط الساحل
ومن الدلائل حزنه ونحيبه جوف الظلام فما له من عاذل
ومن الدلائل أن تراه مسافرا نحو الجهاد وكل فعل فاضل
ومن الدلائل زهده فيما يرى من دار ذل والنعيم الزائل
ومن الدلائل أن تراه باكيا أن قد رآه على قبيح فاعمل
ومن الدلائل أن تراه مسلما كل الأمور إلى المليك العادل
ومن الدلائل أن تراه راضيا بمليكه في كل حكم نازل
ومن الدلائل ضحكه بين الورى والقلب محزون كقلب الثاكل )

، وقد ذيلت على هذه الأبيات عند تشطيري لها أزدت فيها ذكر بعض العلامات التي أشرت إليها آنفا، فقلت:

ومن الدلائل خوفه من حجبه وبعاده عن السلو الحاصل
ومن الدلائل أن تراه عابدا حبا له من غير خوف حائل
ومن الدلائل أن تراه آنسا بوليه المولى وليس بغافل
ومن الدلائل أن تراه مبادرا لأوامر المحبوب قبل العاجل
ومن الدلائل أن تراه جامعا كل الهموم لهم ليوم آجل
ومن الدلائل أن تراه موافقا لمحاب مولاه بغير تغافل
ومن الدلائل ذله بين الورى لذوي الولا والبغض للمتجاهل
ومن الدلائل أن تراه واثقا في تيهه في الله فوق الجاهل
ومن الدلائل أن تراه مجاهدا بالنفس والمال النفيس الحاصل
ومن الدلائل أنه في حبه لم يخف لومة لائم أو عاذل
ومن الدلائل أن تراه مسارعا للحق ثم مجانبا للباطل
ومن الدلائل أن تراه ناشرا أفضال مولاه بحمد واصل
ومن الدلائل أن تراه صابرا لبلائه في كل أمر نازل
ومن الدلائل أن تراه ناصحا متواصيا بالحق غير مخاتل
ومن الدلائل أن تراه مهاجرا مألوفه في حب مولى كامل
[ ص: 638 ] ومن الدلائل أن تراه خائفا عن أعين في زي عبد خامل






الخدمات العلمية