الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة .

الصلاة في النعلين جائزة وإن كان نزع النعلين سهلا وليست الرخصة في الخف لعسر النزع ؛ بل هذه النجاسة معفو عنها .

وفي معناها المداس صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نعليه ثم نزع فنزع الناس نعالهم ، فقال : لم خلعتم نعالكم قالوا ؟ : رأيناك خلعت فخلعنا قال ، صلى الله عليه وسلم إن جبرائيل عليه السلام : أتاني فأخبرني أن بهما خبثا ، فإذا أراد أحدكم المسجد فليقلب نعليه ، ولينظر فيهما ، فإن رأى خبثا ، فليمسحه بالأرض ، وليصل فيهما وقال بعضهم : الصلاة في النعلين أفضل ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال لم خلعتم نعالكم ؟ وهذه مبالغة ، فإنه صلى الله عليه وسلم سألهم ليبين لهم سبب خلعه ؛ إذ علم أنهم خلعوا على موافقته .

وقد روى عبد الله بن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه فإذن قد فعل كليهما .

التالي السابق


(مسألة)

ثانية في حكم خلع النعال في الصلاة هل يفسد أم لا؟ وهل الصلاة في النعلين جائزة أم لا؟ قال - رحمه الله تعالى - : (الصلاة في النعلين جائزة) باتفاق فقهاء الأمصار (وإن كان نزع النعلين سهلا) على المصلي لا يحتاج إلى عمل كثير (وليست الرخصة في الخف لعسر النزع؛ بل هذه النجاسة معفو عنها، وفي معناها) ، أي: النعال (المداس) بكسر الميم، قيل ميمه أصلية؛ ولذا جمعوه على أمدسة كسلاح وأسلحة، وقال صاحب المصباح: إذا صح سماعه من العرب، فقياسه كسر الميم؛ لأنه آلة .

قلت: والمشهور فتح الميم، وهو الذي ينتعله الناس، ويختلف نوعه باختلاف البلاد، وفي معناه الزربول، وجمعه الزرابيل، وأجمعت العلماء على أن الصلاة في النعال، وما في حكمها مما هو ملبوس للرجل جائزة فرضا، أو نفلا، أو جنازة، سفرا، أو حضرا؛ بل قيل بالسنية للاتباع، وسواء كان يمشي بها في الأزقة، أو لا، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا يمشون في طرقات المدينة، ويصلون فيها؛ بل كانوا يخرجون بها إلى الحشوش حيث يقضون الحاجة، وقال ابن القيم: قيل للإمام أحمد: أيصلي الرجل في نعليه، قال: إي والله، وترى أهل الوسواس إذا صلى أحدهم صلاة الجنازة في نعليه قام على عقبهما كأنه واقف على الجمر (صلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في نعليه) ، أي: عليهما، أو بهما لتعذر الظرفية إن جعلت في متعلقة بصلى، فإن تعلقت بمحذوف صحت الظرفية بأن يقال: صلى ورجلاه في نعليه؛ أي: مستقرة فيها (ثم نزع فنزع الناس نعالهم، فقال: لهم) لما انصرف: (لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا، فإذا أراد أحدكم المسجد) ، أي: دخوله (فليقلب نعليه، ولينظر فيهما، فإن رأى) ، فيهما (خبثا، فليمسحه بالأرض، وليصل بهما) . قال العراقي: رواه أحمد، واللفظ له، وأبو داود، والحاكم، وصححه من حديث أبي سعيد.

قلت: وكذا أبو بكر بن أبي شيبة من طريق أبي نضرة عنه بطوله هكذا، ومن طريق أخرى، عن عبد الرحمن بن أبي يعلى مختصرا .

وأخرج أيضا من طريق يزيد بن إبراهيم اليسري، عن الحسن رفعه: تعاهدوا نعالكم، فإن رأى أحدكم فيهما أذى فليمطه، وإلا فليصل فيهما. فقد دل هذا الحديث على جواز الصلاة في النعلين؛ بل على سنيتها .

(وقال بعضهم: الصلاة بالنعلين أفضل؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال) في هذا الحديث لأصحابه: (لم خلعتم نعالكم؟ وهذه مبالغة، فإنه سألهم ليبين لهم سبب خلعه؛ إذ علم أنهم خلعوا على موافقته) ، وقد أمروا باتباعه -صلى الله عليه وسلم- في كل حال من الأحوال، خصوصا في العبادات الظاهرة، فإنما قال لهم ما قال؛ لبيان السبب، ومنهم من قال: الصلاة فيها من الرخص لا من المستحبات؛ [ ص: 308 ] لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة، لكن ملامسة الأرض التي تكثر فيها النجاسات قد تقصر به عن هذه الرتبة، وإذا تعارضت مراعاة التحسين، ومراعاة إزالة النجاسة قدمت الثانية؛ لأنها من باب دفع المفاسد، والأخرى من باب جلب المصالح، إلا أن يرد دليل بإلحاقه بما يتجمل به، فيرجع إليه. اهـ. وهو قول ابن دقيق العيد، وقد عقد البخاري باب الصلاة في النعال، فقال: حدثنا آدم بن أبى إياس، حدثنا شعبة، أخبرنا أبو مسلمة الأزدي، سألت أنس بن مالك: أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي في نعليه؟ قال: نعم.

قلت: وأخرجه أيضا أحمد، ومسلم في الصلاة، والترمذي، والنسائي. قال الشراح: وهو محمول على ما إذا لم تكن فيهما نجاسة، فعند الشافعية لا يطهرها إلا الماء، وقال مالك، وأبو حنيفة: إن كانت يابسة أجزأ حكها، وإن كانت طرية تعين الماء، ونقل المناوي أنه ذهب بعض السلف إلى أن النعل المتنجسة تطهر بدلكها بالأرض، وتصح الصلاة فيها، وهو قول قديم للشافعي. اهـ .

(وقد روي عن عبد الله بن السائب) بن أبي السائب، واسمه صيفي بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي أبو السائب، ويقال: أبو عبد الرحمن المكي القارئ، له ولأبيه صحبة، وهو والد محمد بن عبد الله، وكان قارئ أهل مكة، وعنه أخذ أهل مكة القرآن، وتوفي بمكة. روى له الجماعة إلا البخاري (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلع نعليه) . قال العراقي: أخرجه مسلم. اهـ .

قلت: وجدت بخط الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر الحريري ابن خال القطب الحيضري ما نصه: ليس في صحيح مسلم ذكر خلع النبي -صلى الله عليه وسلم- نعليه ألبتة، إنما وقع ذلك زيادة في حديثه الذي في صحيح مسلم؛ ذكرها أحمد في مسنده، ولفظه: حضرت النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، وصلى في قبل الكعبة، فخلع نعليه، فوضعهما عن يساره، ثم استفتح سورة المؤمنين. فمسلم لم يذكر هذه الزيادة، وإنما لفظه: صلى لنا -صلى الله عليه وسلم- الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون أخذت النبي -صلى الله عليه وسلم- سعلة فركع. حررت ذلك من الأصول، فليعلم. اهـ .

(فإذا قد فعل) -صلى الله عليه وسلم- (كليهما) ، أي: صلى بالنعلين تارة، وبغيرهما أخرى .

قلت: أما الصلاة فيهما، فقد روي عنه -صلى الله عليه وسلم- في عدة أخبار منها ما تقدم، ومنها ما أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي هريرة قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي وهما عليه، وخرج وهما عليه؛ يعني نعليه، وعن ابن أوس، عن جده رفعه: صلى في نعليه. وعن عمرو بن حريث مثله، وعن حميد بن هلال العودي عمن سمع الأعرابي يقول: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي في نعلين من بقر. وعن ابن جريج، سألت عطاء: أيصلي الرجل في نعليه؟ فقال: نعم، قد صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نعليه، وعن أبي سلمة، عن أنس مثله، وعن جرير، عن منصور، عن إبراهيم: خلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعليه في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، ثم لبسها، فلم ير نازعهما بعد، ثم روى عن جماعة كانوا يصلون في نعالهم؛ ذكر منهم أبا جعفر، وعلي بن الحسين، وإبراهيم التيمي، وسلمة، وابن عباس، وعمر، وعثمان، والقاسم، وسالما، وابن المسيب، وعطاء بن يسار، وطاوسا، ومجاهدا، وأبا مجلز، وعويمر بن ساعدة، ثم أخرج عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رفعه: كان يصلي حافيا، ومنتعلا. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى رفعه: من شاء أن يصلي في نعليه فليصل، ومن شاء أن يخلع فليخلع.




الخدمات العلمية