الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويأمر الناس بالصدقة ، والعتق ، والتوبة .

وكذلك يفعل بخسوف القمر إلا أنه يجهر فيها لأنها ليلية .

التالي السابق


( و) يستحب أن ( يأمر) الإمام ( الناس) في هذه الخطبة ( بالصدقة، والعتق، والتوبة) من المعاصي، ويحذرهم الغفلة والاغترار، وقد جاء كل من الأمر بالصدقة والإعتاق في أحاديث؛ ففي حديث عائشة عند أبي بكر بن أبي شيبة : فصلوا، وتصدقوا، وقد تقدم. وعند البخاري من حديث فاطمة، عن أسماء، قالت: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في الكسوف؛ أي: ليرفع الله به البلاء عن عباده .

وهل يقتصر على العتاقة أو هل من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى؟ الظاهر الثاني لقوله تعالى: وما نرسل بالآيات إلا تخويفا وإذا كانت من التخويف فهي داعية إلى التوبة والمسارعة إلى جميع أفعال البر، كل على قدر طاقته، ولما كان أشد ما يتوقع من التخويف النار جاء الندب بأعلى شيء يتقى به النار؛ لأنه قد جاء: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار". فمن لم يقدر على ذلك فليعمل بالحديث العام، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"، ويأخذ من وجه البر، قاله ابن أبي جمرة.

( وكذلك يفعل بخسوف القمر إلا أنه يجهر فيها لأنها) صلاة ( ليلية) ؛ فيستحب فيها الجهر. هذا مذهب الشافعي، وعند أصحابنا تؤدى صلاة الخسوف فرادى ركعتين، كسائر النوافل في كل ركعة ركوع واحد وقيام واحد، ولا يجمع لها؛ لأنه قد خسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أنه جمع الناس لها، ولأن الجمع العظيم بالليل سبب للفتنة فلا يشرع، بل يتضرع كل واحد لنفسه، وبه قال مالك: قال أصحابه: إذ لم يرد أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في جماعة، ولا دعا إلى ذلك، ولأشهب منهم: جواز الجمع .

قال اللخمي : وهو أمين، قال: والمذهب أن الناس يصلونها في بيوتهم، ولا يكلفون الخروج ليلا؛ لئلا يشق ذلك [ ص: 433 ] عليهم، وقد عقد البخاري عليه بابا فقال: الصلاة في كسوف القمر؛ أخرج فيه من طريق شعبة عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين، واعترض الإسماعيلي عليه بأن هذا الحديث لا مدخل له في الباب؛ لأنه لا ذكر للقمر فيه لا بالتنصيص، ولا بالاحتمال، وأجيب بأن ابن التين ذكر أن في رواية الأصيلي في هذا الحديث: انكسف القمر. بدل قوله: الشمس. لكن تورع في ثبوت ذلك، فيجاب بأن هذا الحديث مختصر من حديث آخر أورده بعد ذلك مطولا فأراد أن يبين أن المختصر بعض المطول، والمطول فيه المقصود، وقد روى ابن أبي شيبة هذا الحديث بلفظ: انكسفت الشمس أو القمر. وفي رواية هشيم: الشمس والقمر. أما حديثه المطول فأخرجه في هذا الباب من طريق عبد الوارث، عن يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يجر رداءه حتى انتهى إلى المسجد، وناب الناس إليه فصلى بهم ركعتين، فانجلت الشمس، فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا يخسفان لموت أحد، وإذا كان ذاك فصلوا، وادعو حتى يكشف ما بكم.

وهذا موضع الترجمة إذ أمر بالصلاة بعد قوله: إن الشمس والقمر، وعند ابن حبان من طريق نوح بن قيس عن يونس في هذا الحديث: فإذا رأيتم شيئا من ذلك فصلوا، وهو أدخل في الباب من قوله: فإذا كان ذلك؛ لأن الأول نص، وهذا محتمل لأن تكون الإشارة عائدة إلى كسوف الشمس، لكن الظاهر عود ذلك إلى خسوفهما معا، وعند ابن حبان من طريق النضر بن شميل، عن أشعث بإسناده في هذا الحديث صلى في كسوف الشمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم، وفيه رد على من أطلق كابن رشيد أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل فيه، وأول بعضهم قوله: صلى؛ أي: أمر بالصلاة؛ جمعا بين الروايتين .

وذكر صاحب جمع العدة أن خسوف القمر وقع في السنة الرابعة في جمادى الآخرة، ولم يشتهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع له الناس للصلاة، وقال ابن القيم في الهدي: لم ينقل أنه صلى في خسوف القمر في جماعة، لكن حكى ابن حبان في السيرة: أن القمر خسف في السنة الخامسة، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه الكسوف، فكانت أول صلاة كسوف في الإسلام. قال الحافظ ابن حجر : وهذا إن ثبت انتفى التأويل المذكور، والله أعلم .




الخدمات العلمية