الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما أسباب هذه المعاني الستة ، فاعلم أن حضور القلب سببه الهمة فإن قلبك تابع لهمتك ، فلا يحضر إلا فيما يهمك .

ومهما أهمك أمر حضر القلب فيه شاء أم أبى ، فهو مجبول على ذلك ومسخر فيه .

والقلب إذا لم يحضر في الصلاة لم يكن متعطلا بل جائلا فيما الهمة مصروفة إليه من أمور الدنيا فلا حيلة ولا علاج لإحضار القلب إلا بصرف الهمة إلى الصلاة والهمة لا تنصرف إليها ما لم يتبين أن الغرض المطلوب منوط بها وذلك هو الإيمان والتصديق بأن الآخرة خير وأبقى وأن الصلاة وسيلة إليها فإذا أضيف هذا إلى حقيقة العلم بحقارة الدنيا ومهماتها حصل من مجموعها حضور القلب في الصلاة وبمثل هذه العلة يحضر قلبك إذا حضرت بين يدي بعض الأكابر ممن لا يقدر على مضرتك ومنفعتك ، فإذا كان لا يحضر عند المناجاة مع ملك الملوك الذي بيده الملك والملكوت والنفع ، والضر فلا تظنن أن له سببا سوى ضعف الإيمان فاجتهد الآن في تقوية الإيمان وطريقه يستقصى في غير هذا الموضع وأما التفهم فسببه بعد حضور القلب إدمان الفكر وصرف الذهن إلى إدراك المعنى وعلاجه ما هو علاج إحضار القلب مع الإقبال على الفكر والتشمر لدفع الخواطر .

وعلاج دفع الخواطر الشاغلة قطع موادها أعني النزوع عن تلك الأسباب التي تنجذب الخواطر إليها وما لم تنقطع تلك المواد لا تنصرف عنها الخواطر فمن أحب شيئا أكثر ذكره فذكر المحبوب يهجم على القلب بضرورة لذلك ترى أن من أحب غير الله لا تصفو له صلاة عن الخواطر .

التالي السابق


(وأما أسباب هذه المعاني الستة، فاعلم أن حضور القلب سببه) الأعظم (الهمة) ، وهي القوة الراسخة في النفس الطالبة لمعالي الأمور، ولها مرتبتان: الأولى اعتناء القلب بالشيء المطلوب، والثانية توجهه وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جناب الحق لحصول الكمال له أو لغيره، والمراد هنا بها مطلق الاعتناء، (فإن قلبك تابع لهمتك، فلا يحضر) معك (إلا فيما يهمك) ، أي: فيما تصرف همتك إليه، فهو تابع لها من غير انفكاك عنها (ومهما أهمك أمر) خيرا كان أو شرا (حضر القلب) عنده (شاء أم أبى، فهو مجبول على ذلك ومسخر فيه) ، ومن هنا مدحوا علو الهمة، وكبرها وجعلوه من أمارات الإيمان، والعالي الهمة على الإطلاق من لا يرضى بالهمم الحيوانية قدر وسعه، فلا يصير عبدا غاويه بطنه وفرجه، بل يجتهد أن يتخصص بمكارم الشريعة، فيصير من خلفاء الله تعالى وأوليائه ومجاوريه في الآخرة. (والقلب إذا لم يحضر في الصلاة لم يكن متعطلا) ، كما يذهب إليه الوهم، (بل جائلا) ، أي: متحركا مضطربا (فيما الهمة مصروفة إليه من أمور الدنيا) ، أما في دكانه أو عند زوجته أو بعض معاملاته، أو بعض مشتهيات نفسه، فيما تحمله خسة همته عليه، (فلا حيلة ولا علاج لإحضار القلب) في الصلاة (إلا بصرف الهمة إلى الصلاة) ، حتى يتبعها القلب، (والهمة) من شأنها تحري معالي الأمور، ولكنها لما استعملت في أضدادها مالت إلى الملاذ والمشتهيات، وهي إذا (لا تنصرف إليها) ، أي: إلى الصلاة، وهي من معالي العبادات وشرائف القرب المنجيات (ما لم يتبين أن الغرض المطلوب منوط بها) ، ومعلق عليها، (وذلك هو الإيمان والتصديق) الجزم، (بأن الآخرة خير وأبقى) بنص القرآن، (و) يوطن في نفسه (أن الصلاة وسيلة إلى الآخرة) ، يتوسل بها إلى نيل مقاصدها، (فإذا أضيف ذلك إلى حقيقة العلم بحقارة الدنيا) ، وحقارة (مهماتها) ، وفي نسخة: ومهانتها، فيعلم أن حياتها مستعارة وحياة دار الآخرة مخلدة، وأنه لا اعتداد بما له فناء، كما قال القائل:

ومن سره أن لا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا

ويعلم أن من عظمت همته لم يرض بقنية مستردة، وحياة مستعارة، فإن أمكنه أن يقتني قنية مؤبدة وحياة مخلدة، فليفعل ولا يعتمد على ظل زائل وجدار مائل، وما وفق الله عبدا بفهم ما ذكر إلا (حصل) له (من مجموعها حضور لقلب في الصلاة) ، وما يتعلقه من الأمور المذكورة، ليكن قبل دخوله في حضرة الصلاة؛ لئلا يشتغل خاطره بما يخالف حال الصلاة، (وبمثل هذه العلة يحضر قلبك إذا حضرت بين يدي بعض الأكابر) من أهل الدنيا (ممن لا يقدر على مضرتك و) لا على (منفعتك، فإذا كان لا يحضر) قلبك (عند المناجاة) والمخاطبة (مع ملك الملوك) ، ورب الأرباب (الذي بيده الملك والملكوت، و) بقبضة قدرته (النفع والضر) ، وهو السميع البصير المطلع على هواجس الضمير، (فلا تظنن أن له سببا) آخر (سوى ضعف الإيمان) وانطماس أنواره (فاجتهد الآن في) تحصيل الطريق الذي يدلك إلى (تقوية الإيمان) ، وعود الأنوار إليه وانبساطها على الجوارح والظواهر كما قيل:


وإذا حلت الهداية قلبا نشطت للعبادة الأعضاء

(وطريقه يستقصى في غير هذا الموضع) من الكتاب إن شاء الله تعالى .

(وأما التفهم فسببه بعد حضور القلب) عن الغيبوبة (إدمان الفكر) ، أي: إدامته، والفكر قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، (وصرف الذهن) ، هو الذكاء والفطنة (إلى إدراك المعنى) المقصود، (وعلاجه ما هو علاج إحضار القلب) ، وهو جمع الهمة (مع الإقبال على الفكر) الذي يجول به الخاطر في النفس، (والتشمر لدفع الخواطر) الطارئة على القلب (الشاغلة) عن التفهم، (وعلاج دفع الخواطر الشاغلة قطع سوادها) التي منها نشأت تلك الخواطر (أعني) بقطع المواد (النزوع من تلك الأسباب) المتمكنة في النفس (التي [ ص: 123 ] تنجذب الخواطر إليها) لتعلقها بها، (وما لم تنقطع تلك المواد لا تنصرف عنها الخواطر) ، وما مثل من يشرع في دفع الخواطر مع بقاء موادها إلا مثل من يدهن البعير الأجرب على وبره، فأنى ينقطع جربه مع بقاء مادته في جلده، (فمن أحب شيئا أكثر ذكره) ، هذا قد روي مرفوعا من حديث عائشة -رضي الله عنها- بلفظ: أكثر من ذكره، أخرجه أبو نعيم والديلمي من حديث مقاتل بن حيان، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي عنها، وقد أغفله العراقي. (فذكر المحبوب يهجم على القلب بالضرورة) لاعتياده بذكره كثيرا، ومعنى الهجوم الورود فجأة من غير قصد. وقال المحاسبي في الرعاية: علامة المحبين كثرة ذكر المحبوب على الدوام لا ينقطعون ولا يملون ولا يفترون، فذكر المحبوب هو الغالب على قلوب المحبين لا يريدون به بدلا، ولا يبغون عنه حولا، ولو قطعوا عن ذكر محبوبهم فسد عيشهم، وقال بعضهم: علامة المحبة ذكر المحبوب على عدد الأنفاس، واجتمع عند رابعة -رحمها الله تعالى- جماعة من العلماء والزهاد وتفاوضوا في ذم الدنيا وهي ساكتة، فلاموها، فقالت: من أحب شيئا أكثر من ذكره، إما بحمد أو بذم، فإن كانت الدنيا في قلوبكم لا شيء فلم تذكرون لا شيء، (فكذلك من أحب غير الله) ومال بكليته إليه، (لا تصفو له صلاة عن الخواطر) الرديئة، نسأل الله السلامة .




الخدمات العلمية