الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي الخبر : إن أهل الكتابين أعطوا يوم الجمعة ، فاختلفوا فيه ، فصرفوا عنه ، وهدانا الله تعالى له وأخره لهذه الأمة وجعله عيدا لهم ، فهم أولى الناس به سبقا ، وأهل الكتابين لهم تبع وفي حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أتاني جبريل عليه السلام في كفه مرآة بيضاء ، وقال : هذه الجمعة يفرضها عليك ربك لتكون لك عيدا ، ولأمتك من بعدك ، قلت : فما لنا فيها ؟ قال : لكم فيها خير ساعة من دعا فيها بخير قسم له أعطاه الله سبحانه إياه ، أو ليس له قسم ذخر له ما هو أعظم منه ، أو تعوذ من شر مكتوب عليه إلا أعاذه الله عز وجل من أعظم منه وهو سيد الأيام عندنا ، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد قلت : ولم قال : إن ربك عز وجل اتخذ في الجنة واديا أفيح من المسك أبيض فإذا كان يوم الجمعة نزل تعالى من عليين على كرسيه فيتجلى لهم حتى ينظروا إلى وجهه الكريم وقال صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ؛ فيه خلق آدم عليه السلام ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه تيب عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وهو عند الله يوم المزيد كذلك ، تسميه الملائكة في السماء ، وهو يوم النظر إلى الله تعالى في الجنة .

التالي السابق


(وفي الخبر : إن أهل الكتابين) ، أي : اليهود ، والنصارى (أعطوا يوم الجمعة ، فاختلفوا فيه ، فصرفوا عنه ، وهدانا الله تعالى له) ، أي : أرشدنا إليه بمنه (وأخره لهذه الأمة) المحمدية (وجعله عيدا لهم ، فهم) أولى الناس به ، و (أول الناس به سبقا ، وأهل الكتابين لهم تبع) . هكذا هو في سياق القوت ، ومعنى اختلافهم فيه هو أنه هل يلزمهم بعينه أم يسوغ لهم إبداله بغيره من الأيام ؟ فاجتهدوا في ذلك ، فأخطئوا ، ومعنى هداية الله لنا إياه أن نص لنا عليه ، ولم يكلنا إلى اجتهاد ، ويدل لقوله : أعطوا الجمعة ما رواه ابن أبي حاتم ، عن السدي أن الله فرض على اليهود الجمعة ، فقالوا : يا موسى ، إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا ، فاجعل لنا ، فجعل عليهم . قال العراقي : الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة بنحوه . أهـ .

قلت : وأخرجه النسائي كذلك ، وكلهم من طريق أبي الزناد عن [ ص: 215 ] الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول - واللفظ للبخاري - سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يوهم الذي فرض عليهم ، فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا ، والنصارى بعد غد . هذا أول حديث في الباب ، وأورده كذلك بعد أبواب من طريق ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة نحو ذلك ، وأورده أيضا في تفسير إسرائيل ، وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين ، عن أبي زرعة الدمشقي ، عن أبي اليمان شيخ البخاري قبل سياقه الأول (وفي حديث أنس) بن مالك - رضي الله عنه - (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أتاني جبريل ) - عليه السلام - (في كفه مرآة) كمشكاة ما يتراءى فيه الوجه (بيضاء ، وقال : هذه الجمعة) .

وفي القوت : فقال بالفاء (يعرضها عليك ربك لتكون عيدا لك ، ولأمتك) ، وفي القوت : لك عيدا ولأمتك (من بعدك ، قلت : فما لنا فيها ؟ قال : لكم فيها خير ساعة من دعا فيها بخير هو قسم له) ، وفي القوت : هو له قسم (أعطاه الله) تعالى (إياه ، أو ليس له قسم ذخر له ما هو أعظم منه ، أو تعوذ من شر هو مكتوب عليه) ، ولفظ القوت : من شر عليه مكتوب (إلا أعاذه الله تعالى من أعظم منه) ، وليس في القوت : من أعظم (وهو سيد الأيام عندنا ، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد) ، ولفظ القوت : ونحن نسميه يوم المزيد (قلت : ولم قال : إن ربك تعالى اتخذ في الجنة واديا أفيح) ، أي : أكثر فوحا (من مسك أبيض) .

وفي القوت : أذفر أبيض (فإذا كان يوم الجمعة نزل من عليين) جمع علي ، بكسر فتشديد لام وياء ، وهي الغرفة العالية (على كرسيه) ، وفي القوت : بعد قوله عليين ما نصه ، وذكر الحديث . قال فيه : (فيتجلى لهم حتى ينظروا إلى وجهه) قال صاحب القوت : وذكرنا الحديث بتمامه في مسند الألف .

قلت : وقد ظهر بهذا أن الذي ذكره هنا ليس بتام السياق ، وما ذكر تمامه قريبا . قال العراقي : رواه الشافعي في المسند ، والطبراني رواه بإسنادين أحدهما جيد قوي ، والبزار ، وأبو يعلى مختصرا ، ورواته رواة الصحيح ، عن أنس من حديث طويل . أهـ .

ولفظ الشافعي في المسند : حدثني إبراهيم بن محمد ، قال موسى بن عبيدة : حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة ، عن عبد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك يقول : أتى جبريل - عليه السلام - بمرآة بيضاء فيها وكتة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما هذا ؟ فقال : هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك ، فالناس لكم فيها تبع ، اليهود والنصارى ، ولكم فيها خير ، وفيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له ، وهو عندنا يوم المزيد .

قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا جبريل ، وما يوم المزيد ؟ قال : إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب مسك ، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله تعالى ما شاء من ملائكته ، وحوله منابر من نور عليها مقاعد للنبيين ، وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت ، والزبرجد عليها الشهداء ، والصديقون ، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب ، فيقول الله تعالى : أنا ربكم قد صدقتكم وعدي ، فسلوني أعطكم ، فيقولون : ربنا نسألك رضوانك ، فيقول : قد رضيت عنكم ، ولكم علي ما تمنيتم ، ولدي مزيد ، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخيرات ، وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش ، وفيه خلق آدم ، وفيه تقوم الساعة
.

قال الشافعي : أخبرنا إبراهيم بن محمد قال : حدثني أبو عمران إبراهيم بن الجعد ، عن أنس شبيها به ، وزاد عليه : ولكم فيه خير ، من دعا فيه بخير هو له ، ولكم قسم أعطيه ، وإن لم يكن قسم ذخر له ما هو خير منه . وزاد فيه أيضا أشياء . أهـ . ما في المسند ، وفي المصنف لأبي بكر بن أبي شيبة في باب فضل الجمعة ، ويومها ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ليث ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتاني جبريل ، وفي يده كالمرآة البيضاء فيها كالنكتة السوداء ، فقلت يا جبريل ، ما هذه ؟ قال : هذه الجمعة . قال : قلت : وما الجمعة ؟ قال : لكم فيها خير . قال : قلت : وما لنا فيها ؟ قال : تكون عيدا لك ، ولقومك من بعدك ، ويكون اليهود ، والنصارى تبعا لك . قال : قلت : وما لنا فيها ؟ قال : لكم فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها شيئا من أمور الدنيا ، والآخرة [ ص: 216 ] هو له قسم إلا أعطاه إياه ، أو ليس له بقسم إلا ذخر له عنده ما هو أفضل منه ، أو يتعوذ به من شر هو عليه مكتوب إلا صرف عنه من البلاء ما هو أعظم منه . قال : قلت : وما هذه النكتة فيها ؟ قال : هي الساعة ، وهي تقوم يوم الجمعة ، وهو عندنا سيد الأيام ، ونحن ندعوه يوم القيامة ، ويوم المزيد . قال : قلت : مم ذلك ؟ قال : لأن ربك - تبارك وتعالى - اتخذ في الجنة واديا من مسك أبيض ، فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه - تبارك وتعالى - ، ثم حف الكرسي بمنابر من ذهب مكللة بالجوهر ، ثم يجيء النبيون حتى يجلسوا عليها ، وينزل أهل الغرف حتى يجلسوا على ذلك الكثيب ، ثم يتجلى لهم ربهم - تبارك وتعالى - ، ثم يقول : سلوني أعطكم ، فيسألونه الرضا . قال : فيشهدهم أنه قد رضي عنهم ، قال : فيفتح لهم ما لم تر عين ، ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب بشر . قال : وذلكم مقدار انصرافكم من يوم الجمعة . قال : ثم يرتفع ، وترتفع مع النبيون ، والصديقون ، والشهداء ، ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم ، وهي درة بيضاء ليس فيها فصم ، ولا وصم ، أو درة حمراء ، أو زبرجدة خضراء فيها غرفها ، وأبوابها مطرزة ، وفيها أنهارها وثمارها متدلية . قال : فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا إلى ربهم نظرا ، وليزدادوا منه كرامة . أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس رفعه : جاءني جبريل بمرآة بيضاء فيها نكتة سوداء ، قال : فقلت : ما هذه ؟ قال : هذه الجمعة ، وفيها ساعة . أهـ .

قلت : ليث ، ويزيد ضعيفان .

وأخرج الخطيب عن ابن عمر قال : نزل جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي يده شبه مرآة فيها نكتة سوداء ، فقال : يا جبريل ، ما هذه ؟ قال : هذه الجمعة .

(وقال - صلى الله عليه وسلم - : "خير يوم طلعت عليه - وفي رواية فيه - الشمس يوم الجمعة ؛ وذلك لأنه فيه خلق آدم - عليه السلام - ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أهبط منها إلى الأرض ، وفيه تيب عليه) ، أي : قبلت توبته (وفيه تقوم الساعة) ، أي : بين الصبح ، وطلوع الشمس (وهو عند الله) يدعى (يوم المزيد ، وكذلك تسميه الملائكة في السماء ، وهو يوم النظر إلى الله تعالى في الجنة) . هكذا أورده صاحب القوت ، وقد ذكر العراقي أنه أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة . أهـ .

والذي أخرجه مسلم ، وكذا الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن مردويه : خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ، وعند مالك في الموطأ ، وأحمد أيضا ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم ، كلهم عن أبي هريرة بلفظ : خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أهبط منها ، وفيه تيب عليه ، وفيه قبض ، وفيه تقوم الساعة . . . الحديث ، وهكذا أخرجه الشافعي في المسند ، وليس عندهم ذكر يوم المزيد ، ولا يوم النظر ، وقال الترمذي : صحيح ، وقال الحاكم : على شرطهما ، وأقره الذهبي في التلخيص .

قال المناوي : واختصاص هذا اليوم بوقوع ما ذكر فيه يدل على غيره بالخيرية ؛ لأن خروج آدم فيه من الجنة سبب للخلافة الإلهية في الأرض ، وإنزال الكتب ، وقيام الساعة سبب تعجيل جزاء الاختيار ، وإظهار شرفهم ، فزعم أن هذه القضايا فيه لا تدل على فضيلة في حيز المنع .



(تنبيه) :

في سياق المصنف ، وهو عند الله يوم المزيد . . . إلخ ما هو في حديث أنس الذي تقدم ذكره ، وصاحب القوت لما ذكر هذا الحديث انتهى به إلى قوله : وفيه تقوم الساعة ، ثم قال من عنده : وهو يوم المزيد عند الله ، فظنه المصنف أنه تتمة الحديث ، وليس كذلك .




الخدمات العلمية