الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن أدرك الركوع الثاني مع الإمام فقد فاتته تلك الركعة ؛ لأن الأصل هو الركوع الأول .

التالي السابق


( ومن أدرك) الإمام في الركوع الأول من الركعة الأولى فقد أدرك الصلاة، وإن أدركه في الركوع الأول من الركعة الثانية فقد أدرك الركعة، فإذا سلم الإمام قام فصلى ركعة بركوعين .

ولو أدرك في ( الركوع الثاني مع الإمام) من إحدى الركعتين ( فقد فاتته تلك الركعة؛ لأن الأصل هو الركوع الأول) ، وهو المذهب، وقد نص عليه البويطي، واتفق الأصحاب على تصحيحه، وحكى صاحب التقريب [ ص: 434 ] قولا آخر أنه بإدراك الركوع يكون مدركا للقومة التي قبله، فعلى هذا لو أدرك الركوع الثاني من الأول، وسلم الإمام قام وقرأ وركع واعتدل وجلس وتشهد وسلم ولا يسجد؛ لأن إدراك الركوع إذا حصل القيام الذي قبله كان السجود بعده محسوبا لا محالة، وعلى المذهب لو أدركه في القيام الثاني لا يكون مدركا لشيء من الركعة أيضا، والله أعلم .



( فصل)

وكيفية صلاة الكسوف عند أصحابنا: أن يصلي إمام الجمعة بالناس ركعتين؛ كل ركعة بركوع واحد، كهيئة النفل من غير زيادة ركوع فيهما بلا نداء، ولا إقامة بلا جهر ولا خطبة، وسن تطويلها وتطويل ركوعهما وسجودهما، ثم يدعو الإمام إن شاء قائما مستقبل الناس .

قال شمس الأئمة الحلواني : وهو أحسن من استقبال القبلة. وقال ابن الهمام : ولو قام، ودعا معتمدا على قوس أو عصا كان أيضا حسنا، ولا يصعد الإمام المنبر، ولا يخرج كذا في البحر المحيط، والقوم يؤمنون على دعائه حتى ينجلي، وإن لم يحضر الإمام صلوا فرادى .



( فصل) في الفوائد المتعلقة بهذا الباب:

الأولى: أخرج البخاري من حديث أبي بكرة : فقام النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى دخل المسجد، فدخلنا فصلى بنا ركعتين. زاد النسائي في هذا الحديث: كما تصلون. وبه استدل أصحابنا على أنها كصلاة النافلة .

وأخرج أبو داود عن قبيصة بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين فأطال فيهما القيام، ثم انصرف، وانجلت الشمس، وفيه: فإذا رأيتموها فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة، وقد روى الركعتين جماعة من الصحابة؛ منهم ابن عمر، وسمرة، وأبو بكرة، والنعمان بن بشير .

قال الزيلعي: والأخذ بهذا أولى لوجود الأمر به من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مقدم على الفعل، ولكثرة رواته، وصحة الأحاديث فيه، وموافقته للأصول المعهودة، ولا حجة للشافعي في حديث عائشة، وابن عباس ؛ لأنه قد ثبت أن مذهبهما خلاف ذلك، وصلى ابن عباس بالبصرة حين كان أميرا عليها ركعتين، والراوي إذا كان مذهبه خلاف ما روى، لا يبقى فيما روى حجة، ولأنه روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى ثلاث ركعات في ركعة، وأربع ركعات في ركعة، وخمس ركعات في ركعة، وست ركعات في ركعة، وثمان ركعات في ركعة، ولم يؤخذ به؛ فكل جواب له عن الزيادة على الركوعين فهو جواب لنا عما زاد على ركوع واحد، وتأويل ما زاد على ركوع واحد أنه صلى الله عليه وسلم طول الركوع فيها فمل بعض القوم فرفعوا رؤوسهم، أو ظنوا أنه صلى الله عليه وسلم رفع رأسه فرفعوا رؤوسهم أو رفعوا رؤوسهم على عادة الركوع المعتاد، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم راكعا فركعوا، ثم فعلوا ذلك ثانيا وثالثا، ففعل من خلفهم كذلك؛ ظنا منهم أن ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم روى كل واحد منهم على قدر ما وقع في ظنه، ومثل هذه الأشياء قد تقع لمن كان في آخر الصفوف؛ فعائشة رضي الله عنها كانت في صف النساء، وابن عباس رضي الله عنه كان في صف الصبيان، والذي يدل على صحة هذا التأويل أنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك بالمدينة إلا مرة واحدة، فيستحيل أن يكون الكل ثابتا، فعلم بذلك أن الاختلاف من الرواة للاشتباه عليهم، وقيل: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع رأسه ليختبر حال الشمس هل انجلت أم لا، فظنه بعضهم ركوعا فأطلق عليه اسمه فلا يعارض ما رويناه مع هذه الاحتمالات. اهـ .

قال القسطلاني : نعم مقتضى كلام أصحابنا الشافعية كما في المجموع أنه لو صلاها كسنة الظهر صحت، وكان تاركا للأفضل؛ أخذ من حديث قبيصة المذكور، وحديث النعمان رفعه، جعل يصلي ركعتين ركعتين، ويسأل عنها حتى انجلت. رواهما أبو داود وغيره بإسنادين صحيحين، وكأنهم لم ينظر إلى احتمال أنه صلاها ركعتين بزيادة ركوع في كل ركعة، كما في حديث عائشة وجابر وابن عباس ؛ حملا للمطلق على المقيد؛ لأنهما خلاف الظاهر، وفيه نظر؛ فإن الشافعي لما نقل ذلك قال: يحمل المطلق على المقيد، وقد نقله عنه البيهقي في المعرفة، وقال: الأحاديث على بيان الجواز، ثم قال: وذهب جماعة من أئمة الحديث منهم ابن المنذر إلى تصحيح الروايات في عدد الركعات، وحملوها على أنه صلاها مرات، وأن الجميع جائز، والذي ذهب إليه الشافعي، ثم البخاري من ترجيح الركوعين بأنهما أشهر أو أصح لما مر من أن [ ص: 435 ] الواقعة واحدة. اهـ. لكن روى ابن حبان في الثقات أنه صلى الله عليه وسلم صلى لخسوف القمر فعليه الواقعة متعددة، وجرى عليه السبكي، والأذرعي، وسبقهما إلى ذلك النووي في شرح مسلم، فنقل فيه ابن المنذر وغيره أنه يجوز صلاتها على كل واحد من الأنواع الثابتة لأنه جرت في أوقات، واختلاف صفاتها محمول على جواز الجميع، قال: وهذا أقوى. ا هـ، وقد وقع لبعض الشافعية كالبندنيجي أن صلاتها ركعتين كالنافلة لا يجزئ. اهـ .

وأيده صاحب عمدة القاري منهم بحديث ابن مسعود عند ابن خزيمة في صحيحه، وعبد الرحمن بن سمرة عند مسلم والنسائي، وسمرة بن جندب في السنن الأربعة، وعبد الله بن عمرو عند الطحاوي، وصححه الحاكم، وكلها مصرحة بأنها ركعتان، وحمله ابن حبان والبيهقي على أن المعنى كما كانوا يصلون في الكسوف؛ لأن أبا بكرة خاطب بذلك أهل البصرة، وقد كان ابن عباس علمهم أنها ركعتان، في كل ركعة ركوعان. كما رواه ابن أبي شيبة وغيره، وثبت في حديث جابر عند مسلم أن ذلك وقع يوم موت إبراهيم، وفيه أن في كل ركعة ركوعين، فدل ذلك على اتحاد القصة، وظهر أن رواية أبي بكرة مطلقة، وفي رواية جابر زيادة بيان في صفة الركوع، والأخذ بها أولى، وتعقبه العيني في شرح البخاري بأن حمل ابن حبان والبيهقي على المعنى المذكور بعيد، وظاهر الكلام يرده، وبأن حديث أبي بكرة من الذي شاهده من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في خطاب أصلا، ولئن سلمنا أنه خاطب بذلك من الخارج، فليس معناه كما حملاه؛ لأن المعنى كما كانت عادتكم فيما إذا صليتم ركعتين بركوعين، وأربع سجدات على ما تقرر من شأن الصلاة .

قلت: والذي يقتضيه النظر أن تصحيح هذه الأعداد، وأنه صلى الله عليه وسلم صلاها مرات، وأن الجميع جائز، وأنه كان يزيد في الركوع إذا لم ير الشمس انجلت أولى من ترجيح الركعتين في كل ركعة؛ لأنه يلزم من ذلك تخطئة بقية الرواة، وعلى الأول لا .

وقال ابن رشد في القواعد: الأولى هو التخيير؛ فإن الجمع أولى من الترجيح .

الثانية: قال في الروضة: إذا اجتمعت صلاتان في وقت قدم ما يخاف فوته، ثم الآكد، فلو اجتمع عيد وكسوف، أو جمعة وكسوف، وخيف فوت العيد أو الجمعة لضيق وقتهما قدمت، وإن لم يخف فالأظهر تقديم الكسوف .

والثاني العيد والجمعة لتأكدهما، وباقي الفرائض كالجمعة. ولو اجتمع كسوف ووتر أو تراويح قدم الكسوف مطلقا؛ لأنها أفضل، ولو اجتمع جنازة وكسوف أو عيد، قدم الجنازة ويشتغل الإمام بغيرها، ولا يشيعها فلو لم تحضر الجنازة أو حضرت ولم يحضر الولي أفرد الإمام جماعة ينتظرون الجنازة، واشتغل هو بغيرها، ولو حضرت جنازة وجمعة، ولم يضق الوقت قدمت الجنازة، وإن ضاق قدمت الجمعة على المذهب، وقال: وقال الشيخ أبو محمد: تقدم الجنازة؛ لأن الجمعة لها بدل .

الثالثة: قال في الروضة أيضا: إذا اجتمع العيد والكسوف خطب لهما بعد الصلاة خطبتين يذكر فيهما العيد والكسوف، ولو اجتمع جمعة وكسوف، واقتضى الحال تقديم الجمعة خطب لها، ثم صلى الجمعة، ثم الكسوف، ثم خطب لها، وإن اقتضى تقديم الكسوف بدأ بها، ثم خطب للجمعة خطبتين، وذكر فيهما شأن الكسوف، ولا يحتاج إلى أربع خطب، ويقصد بالخطبتين الجمعة خاصة، ولا يجوز أن يقصد الجمعة، والكسوف؛ لأنه تشريك بين فرض ونفل، بخلاف العيد والكسوف، فإنه يقصدهما جميعا بالخطبتين؛ لأنهما سنتان .

الرابعة: اعترضت طائفة على قول الشافعي: اجتمع عيد وكسوف، وقالت: هذا محال؛ فإن الكسوف لا يقع إلا في الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين .

فأجاب الأصحاب بأجوبة: أحدها أن هذا قول المنجمين، وأما نحن فنجوز الكسوف في غيرهما؛ فإن الله على كل شيء قدير، وقد فعل مثل ذلك. فقد صح أن الشمس كسفت يوم مات إبراهيم، وروى الزبير بن بكار في الأنساب أنه توفي في العاشر من شهر ربيع الأول. وروى البيهقي مثله عن الواقدي، وكذا اشتهر أن قتل الحسين كان يوم عاشوراء، وروى البيهقي عن أبي قبيل أنه لما قتل الحسين كسفت الشمس .

الثاني: أن وقوع العيد في الثامن والعشرين يتصور بأن يشهد شاهدان على نقصان رجب، وآخران على نقصان شعبان ورمضان، وكانت في الحقيقة كاملة، فيقع العيد في الثامن والعشرين .

الثالث: لو لم يقع ذلك لكان تصوير الفقيه له حسنا [ ص: 436 ] ليتدرب باستخراج الفروع الدقيقة .



الخامسة: ما سوى الكسوفين من الآيات؛ كالزلازل والصواعق والرياح الشديدة لا يصلى لها جماعة، لكن يستحب الدعاء والتضرع، ويستحب لكل أحد أن يصلي منفردا لئلا يكون غافلا، وقد روي أن عليا رضي الله عنه صلى في زلزلة جماعة. قال الشافعي: إن صح قلت به. فمن الأصحاب من قال: هذا قول آخر له في الزلزلة وحدها، ومنهم من عممه في جميع الآيات. قال النووي : لم يصح ذلك عن علي .



قلت: وكذا قال أصحابنا: لا يشرع الجماعة في الظلمة الهائلة بالنهار، والريح الشديدة، والزلازل، والصواعق، وانتشار الكواكب، والضوء الهائل بالليل، والثلج، والأمطار الدائمة، وعموم الأمراض حتما، والخوف الغالب من العدو، ونحو ذلك من الأفزاع والأهوال؛ لأن ذلك كله من الآيات المخوفة، فيتضرع كل واحد لنفسه، ويصلي منفردا، ويدعو الله حتى ينكشف ذلك .

السادسة: قال الشافعي والأصحاب: يستحب للنساء غير ذوات الهيآت صلاة الكسوف مع الإمام، وأما ذوات الهيآت فيصلين في البيوت منفردات. قال الشافعي: فإن اجتمعن فلا بأس إلا أنهن لا يخطبن؛ فإن قامت واحدة وعظتهن وذكرتهن فلا بأس، والله أعلم .



( فصل)

قال الشيخ الأكبر قدس سره في كتاب الشريعة والحقيقة: صلاة الكسوف سنة بالاتفاق، وإنها في جماعة، واختلفوا في صفتها والقراءة فيها، والأوقات التي تجوز فيها، وهل من شرطها الخطبة أم لا، وهل كسوف القمر في ذلك مثل كسوف الشمس؟

أما صفتها فقد وردت فيها روايات مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما بين ثابت وغير ثابت، وما من رواية إلا وبها قائل، فأي شخص صلاها على أي رواية كان جاز له ذلك؛ فإنه مخير في عشر ركعات في ركعتين، وفي ثمان ركعات في ركعتين، وفي ست ركعات في ركعتين، وفي أربع ركعات في ركعتين، وإن شاء صلى ركعتين على العادة في النوافل حتى تنجلي الشمس، وإن شاء دعا الله تعالى حتى تنجلي، فإذا انجلت صلى ركعتين، وانصرف، وكان العلاء بن زياد يصلي لها، فإذا رفع رأسه من الركوع نظر إلى الشمس، فإن انجلت سجد، وإن لم تكن انجلت مضى في قيامه إلى أن يركع ثانية، فإذا رفع رأسه من الركوع نظر إلى الشمس، فإن انجلت سجد، وإن لم تكن انجلت مضى في قيامه حتى يركع هكذا حتى تنجلي، والاعتبار في ذلك أن الكسوف آية من آيات الله يخوف الله به عباده، فإذا وقع فالسنة أن يفزع الناس إلى الصلاة كسائر الآيات المخوفات مثل الزلازل، وشدة الظلمة، واشتداد الرياح على غير المعتاد، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكسوف فقال: إذا تجلى الله لشيء خشع. والحديث غير ثابت، وسبب كسوف الشمس والقمر معلوم، وقد جعله الله آية على ما يريد أن يحدثه من الكوائن في العالم العنصري بحسب المنزلة التي يقع الكسوف فيها، وهو علم قطعي عند العلماء به، ويكون في مكان أكثر منه في آخر، ويبتدئ في مكان، ويكون في مكان آخر غير واقع في ذلك الوقت إلى جزء من ساعة ما يعطيه الحساب، وحينئذ يبتدئ الكسوف في ذلك الموضع الآخر، وكسوف الشمس سببه أن يحول القمر بين الأبصار وبين الشمس، فعلى قدر ما يحجب منه يكون الكسوف في الموضع، وقد يحجبه كله فيظلم الجو في أبصار الناظرين، والشمس منيرة في نفسها ما تغير عليها حال، وكذلك القمر سبب كسوفه إنما هو أن يحول ظل الأرض بينه وبين الشمس، فعلى قدر ما يحول بينهما يكون الكسوف في القمر؛ ولهذا يعرفه من يعرفه من العلماء بتسيير الكواكب ومقاديرها، فلا يخطئون فيه، ولو لم يكن كذلك ما عملوه، فإن الأمور العوارض لا تعلم، والأمور الجارية على أصول ثابتة لا تنخرم، فعلمها العلماء بتلك الأصول إلى أن يخرم الله ذلك الأصل فله المشيئة في ذلك؛ ولهذا لا يتمكن أن يقال في علم المنجم القائل بذلك: إنه علم؛ لأن تلك الأصول التي بنى عليها إنما هي عن وضع إلهي في ترتيب استمرت به العادة، ولما كان الواضع لها وهو الله تعالى قد يمكن أن يزيلها، لم يكن القائل بوقوعها على علم قطعي فأنه ما يعرف ما في نفس الواضع لها، وهو الله تعالى، ولكن يقول: إن أبقى الله تعالى الترتيب وسيره في المنازل على ما قدره فلا بد أن يقع هذا الأمر؛ فلهذا ينفي العلم عنه؛ فضوء القمر لما كان مستفادا من الشمس أشبه النفس في الأخذ عن الله نور الإيمان، والكشف [ ص: 437 ] فإذا كملت النفس وصح لها التجلي على المقابلة، وهي ليلة البدر، ربما ألفتت إلى طبيعتها، فتجلت فيها ظلمة طبيعتها، فحالت تلك الظلمة بينها وبين نورها الإلهي، كما حال ظل الأرض بين القمر الذي هو بمنزلة النفس وبين الشمس، فعلى قدر ما نظرته إلى طبيعتها انحجبت عن نور الإيمان الإلهي، فذلك كسوفها، فهذا كسوف القمر، وأما كسوف الشمس، فهو كسوف العقل؛ فإن الله خلقه ليأخذ عن الله، فحالت النفس التي هي بمنزلة القمر بينه وبين الحق من حيثما يأخذ عنه، فيريد العقل أن يأخذ عن الحق، عن علم ما يوجده في الأرض فتحول النفس بينه وبين الأرض، حتى لا ينظر إليه سبحانه فيما يحدثه فيها، والأرض عبارة عن عالم الجسم، فينحجب العقل بحجاب النفس، فذلك بمنزلة كسوف الشمس، فلا يدركها أبصار الناظرين مما هو في تلك الموازنة، ويفوت العقل من العلم بالله بقدر ما انحجبت من عالم الجسم؛ فلهذا شرع الله التوجه إلى مناجاته، والدعاء لرفع ذلك الحجاب؛ فإن الحجاب جهل وبعد في المواطن الذي ينبغي له الكمال؛ ولهذا لم يكن الكسوف إلا عند الكمال في النيرين في القمر ليلة بدره، وهو كماله في الأخذ من الوجه الذي يلينا، وكسوف الشمس في ثمانية وعشرين يوما من سير القمر في جميع منازل الفلك، فلما وصل إلى نهايته وأراد أن يقابل الشمس من الوجه الآخر حتى يأخذ عنها على الكمال في عالم الأرواح كما أخذ عنها ليلة الرابع عشر في عالم الأجسام، ليفيض من نوره على عالم الأجسام؛ فاشتعلت الشمس بإعطاء القمر إسعافا لطلبه، فكان الكسوف لهذا الإسعاف؛ ولهذا لا يكون للكسوفات حكم في الأرض إلا في الأماكن التي يظهر فيها الكسوف، وأما الأماكن التي لا يظهر فيها الكسوف فلا حكم له فيها ولا أثر، وذلك تقدير العزيز العليم صنعة حكيم، حتى إن الشمس إذا أعطى الحساب أنها تكسف ليلا لم يكن لذلك الكسوف حكم في ظاهر الأرض الذي غابت عنه الشمس، وكذلك القمر، ولو انكسف في غيبته عنا لم يكن لذلك الكسوف حكم، ولا يعتبر كذلك ظاهر الإنسان وباطنه، فقد يقع الكسوف في الأعمال، أي: في العلم الذي يطلب العمل كأحكام الشرائع، وقد يقع في العلوم التي تتعلق بالباطن، ولا حكم لها في الظاهر؛ فتؤثر في موضع تعلقها، إما في علم العمل، وإما في العلم الذي لا يطلب العمل بحسب ما يقع، فيتعين على من تكون حالته مثل هذه أن يتضرع إلى الله تعالى، فإن أخطأ المجتهد فهو بمنزلة الكسوف الذي يكون في غيبة المكسوف فلا وزر عليه، وهو مأجور، وإن ظهر له النص وتركه لرأيه أو لقياسه، فلا عذر له عند الله، وهو مأثوم، وهو الكسوف الظاهر الذي يكون له الأثر المقرر عند علماء هذا الشأن، وأكثر ما يكون مثل هذا في الفقهاء المقلدين لمن قالوا لهم: لا تقلدونا واتبعوا الحديث المعارض لكلامنا؛ فإن الحديث مذهبنا فأبت المقلدة من الفقهاء أن تولي حقيقة تقليدها لإمامها بإتباعها الحديث عن أمر إمامها، وقلدته في الحكم مع وجود المعارض، فعصت الله في قوله: وما آتاكم الرسول فخذوه ، وعصت الرسول في قوله: فاتبعوني ، وعصت إمامها في قوله: خذوا بالحديث إذا بلغكم، واضربوا بكلامي الحائط. فهؤلاء لا يزال كسوف الشمس عليهم سرمدا إلى يوم القيامة، فيتبرأ منهم الله ورسوله والأئمة، فانظر مع من يحشر مثل هؤلاء، فالصلاة المشروعة في الكسوف إنما هي لمناجاة الحق في رفع ظلمة النفس، وظلمة الطبع كما يقول: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ، وهم أهل الأنوار غير المغضوب عليهم، وهم أهل ظلمة الطبع، ولا الضالين وهم أهل ظلمة النفس، فالله يحول بيننا وبين من يكسف عقولنا ونفوسنا، ويجعلنا أنوارا لنا ولمن يقتدي بنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه .



وأما اعتبار عدد الركعات في الركعتين، فاعلم أن الركعتين ظاهر الإنسان وباطنه، أو عقله وطبعه، أو معناه وحرفه، أو غيبته وشهادته، وأما العشرة فهو تنزيهه في الركعتين خالقه جل وعز عن القبل والبعد، والكل والبعض، والفوق والتحت، واليمين والشمال، والخلف والأمام؛ فيرجع هذا التنزيه من الله عليه، فإنه عمل من أعماله فيكون له برجوع هذا العمل عليه هذه الأحكام كلها؛ فلا قبل له، فإنه لم يكن إلا الله، والله لا يتصف بالقبلية ولا بعد له، فإنه باق فلا يبعد، ولا كل له فإنه لا يتجزأ ولا يتحيز، ومن لا كل له من ذاته [ ص: 438 ] فلا بعض له، ومن لا يتصف بهذه الصفات فلا جهات له، وأما اعتبار الثمانية في اثنتين فالثمانية الذات والصفات، فتغيب الذات الكونية وصفاتها في الذات الأحدية، وتندرج أنوار صفاتها في صفاتها، وهو قوله: "كنت سمعه وبصره" وذكر جوارحه، فلا تقع عين إلا عليه ظاهرا وباطنا، من عرف نفسه عرف ربه، فهكذا الأمر في الباطن .

وأما اعتبار الست في اثنتين فهو قوله: فأينما تولوا فثم وجه الله ، وقوله: وكان الله بكل شيء محيطا ، وأما اعتبار الأربعة في الثنتين فهو قوله: ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، وعلى كل طريق يأتي إليه منها ملك مقدس، بيده السيف صلتا، فإن كان المؤتى إليه من العارفين لم يكن له ملك يحفظه، بل هو كسير وقته من أي ناحية جاءه قبل منه، وقلب جسده ذهبا إبريزا، فيعود الآتي من الخاسرين .

وأما القراءة فيها فقيل يقرأ فيها سرا، وقيل: جهرا، والاعتبار إن كان كسوفه نفسيا أسر في مناجاته وذكر الله في نفسه، وإن كان كسوفه في عقله جهر في قراءته، وهو بحثه على الأدلة الواضحة الظاهرة الدلالة القريبة المأخذ التي يشركه فيها العقلاء من حيثما هم أهل فكر ونظر واستدلال، والآخرون أهل كشف وتجل نتيجة الرياضة والخلوات وتطويل المناجاة .



والتضرع إلى الله فيها مشروع كتطويل القراءة فيها فإنه روي أنه كان يقوم فيها بقدر سورة البقرة، والقيام الثاني أقل، والثالث دونه، والرابع دون الثالث، وهكذا كلما صلى يقلل عن القدر الذي في القيام قبله، ويكون ركوعه على النحو من قيامه، وسبب ذلك أن عالم الأرواح ما يتعبهم القيام، ولا يدركهم ملل؛ لأن النشأة نورية خارجة عن حكم الأركان، وأما نشأة تقوم من العناصر إلى الاستحالات البعيدة والغريبة، فيعبر عن ذلك بالنصب والتعب، وكلما نزل فيها من معدن إلى نبات إلى حيوان إلى إنسان، كان التعب أقوى في آخر الدرجات، وهو الإنسان، والنصب أعم؛ فإنه سريع التغير فإن له الوهم، ولا شك أن الأوهام تلعب بالعقول كتلاعب الأفعال بالأسماء، وأما الاعتبار في وقتها فكما لا يتعين للكسوف وقت لا يتعين للصلاة له؛ لأن الصلاة تابعة للحال، وقد ثبت الأمر بالصلاة لها، وما خص وقتا عن وقت، وهي صلاة مأمور بها بخلاف النافلة فإنها غير مأمور بها، فإن حملنا الصلاة على الدعاء دعونا في الوقت المنهي عن الصلاة فيه، وصلينا في غيره من الأوقات، وأما الاعتبار في خطبتها فالخطبة وعظ وذكرى، والآية وعظ وذكرى، والكسوف آية؛ فوقعت المناسبة فترجح جانب من يقول باشتراط الخطبة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الناس في ذلك اليوم بعد الفراغ من الصلاة، وأما كسوف القمر فمن قائل يصلي له في جماعة كصلاة كسوف الشمس، ومن قائل لا يصلي له في جماعة، واستحب صاحب هذا القول أن يصلي له أفذاذا ركعتين ركعتين كسائر النوافل، والاعتبار في ذلك لما كان كسوف الشمس سببه القمر كان كسوف القمر كالعقوبة له لكسوفه للشمس، فتضمن كسوف القمر آيتين، فكانت الصلاة في الجماعة له أولى؛ فإن شفاعة الجماعة لها حرمة أكثر من حرمة الواحد، فالجمع لها ينبغي أن يكون آكد من الجمع للشمس، وكسوف القمر نفسي كما قدمنا، والنفس دائما هي المزاحمة للربوبية بخلاف العقل، فكان ذنبها أعظم وحالها أخطر، فاجتماع الشفعاء عند الشفاعة أولى من إتيانهم أفذاذا، ومن اعتبر في الكسوفات الخشوع كما ورد في الحديث الذي ذكرناه كان منبها على الخشوع للمصلي؛ فإن الله يقول: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ، وقال: وإنها لكبيرة يعني الصلاة إلا على الخاشعين ، وخشوع كل خاشع على قدر علمه بربه، وعلمه بربه على قدر تجليه له، والله أعلم .




الخدمات العلمية