الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وروينا عن الطبراني ، حدثنا القاسم بن عياش بن حماد أبو محمد الجهني الحذاء الموصلي ، حدثنا محمد بن موسى الحرشي ، حدثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى الخراز ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس؛ أن قريشا دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة ، ويزوجوه ما أراد من النساء . فقالوا : هذا لك عندنا يا محمد وكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء ، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح . قال : ما هي ؟ قالوا تعبد آلهتنا سنة - اللات والعزى - ونعبد إلهك سنة . قال : "حتى أنظر ما يأتيني من ربي" ، فجاء الوحي من عند الله عز وجل من اللوح المحفوظ : ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) السورة وأنزل الله عز وجل ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) .

[ ص: 198 ] وروينا من طريق الترمذي ، حدثنا عبد بن حميد ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ( سندع الزبانية ) قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو فعل لأخذته الملائكة عيانا" .

قال : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، فجاء أبو جهل ، فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم ، فزبره ، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني . فأنزل الله تعالى : ( فليدع ناديه سندع الزبانية ) قال ابن عباس : والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله .

وروينا عن ابن عباس ، من طريق محمد بن إسحاق ، اجتماع قريش وعرضهم على النبي صلى الله عليه وسلم ما عرضوا عليه من أموالهم وغير ذلك ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولا ، وأنزل علي كتابا ، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم . فقالوا له : فسل ربك أن يسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، وليبسط علينا بلادنا ، وليخرق فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فإنه كان شيخ صدق ، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل ؟ . وفيه : قالوا له : سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك ، واسأله فليجعل لنا جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما تراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش . وذكر قولهم :فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء [ ص: 199 ] فعل .

وقال قائلهم : نحن نعبد الملائكة ، وهي بنات الله .

وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا . وقال : إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن ، وإنا والله لن نؤمن بالرحمن أبدا . فلما قالوا له ذلك . قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ومعه عبد الله بن أبي أمية المخزومي وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : والله لا نؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك كما تقول ، وأيم الله أن لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك .

وقال أبو جهل : يا معشر قريش إني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله أو كما قال ، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم . قالوا : والله لا نسلمك لشيء أبدا فامض لما تريد ، فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره ، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو ، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره ، حتى قذف الحجر من يده ، وقامت إليه رجال من قريش ، فقالوا له : ما لك يا أبا الحكم ؟ قال : قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة ، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل لا والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه بفحل قط ، فهم بي أن يأكلني ، قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ذلك جبريل لو دنا لأخذه
.

وذكر في الخبر بعث قريش النضر بن الحارث بن كلدة ، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته ، وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما [ ص: 200 ] المدينة ، وسألا أحبار يهود ، فقالت لهما : سلوه عن ثلاث ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول : ما كان من أمرهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها . ما كان نبؤه ؟ وسلوه عن الروح : ما هو ؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقول .

فأقبل النضر ، وعقبة فقالا : قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون ، فقال عليه الصلاة والسلام : أخبركم غدا ، ولم يستثن . فانصرفوا ، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه . حتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف ، قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقد احتبست عني يا جبريل ، فقال ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) الآية . وافتتح السورة بحمده وبذكر نبوة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وفيها ذكر الفتية الذين ذهبوا وهم أصحاب الكهف ، وذكر الرجل الطواف وهو ذو القرنين ، وقال فيما سألوه عنه من الروح ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )
الحديث بطوله وأنا اختصرته .

قال وحدثت عن ابن عباس أنه قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، قالت أحبار يهود : يا محمد أرأيت قولك : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) إيانا تريد أم قومك ؟ قال : كلا . قالوا : فإنك تتلوا فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها في علم الله قليل ، وعندكم من ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه .

قال : فأنزل الله عليه فيما سألوه عنه من ذلك ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ) [ ص: 201 ] أي إن التوراة في هذا من علم الله قليل
.

قال : وأنزل الله فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وبعث من مضى من آبائهم من الموتى ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا ) أي لا أصنع من ذلك الأمر إلا ما شئت . وأنزل الله عليه فيما سألوه أن يأخذ لنفسه ( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز ) إلى ( وكان ربك بصيرا ) .

وأنزل الله فيما قال عبد الله بن أبي أمية ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ) إلى قوله ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) .

وأنزل عليه في قولهم إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له : الرحمن : ( كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن ) .

وأنزل عليه فيما قال أبو جهل ، وما هم به ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) حتى آخر السورة .

وأنزل عليه فيما عرضوا من أموالهم ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد ) . فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق حال الحسد بينهم وبين اتباعه .

[ ص: 202 ] فقال قائلهم : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) أي : اجعلوه لغوا وباطلا واتخذوه هزوا لعلكم تغلبونه بذلك فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه غلبكم . فقال أبو جهل يوما وهو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق يا معشر قريش يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر ، وأنتم الناس كثرة وعددا ، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم ؟ فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) إلى آخر القصة . فلما قال ذلك بعضهم لبعض جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو يصلي يتفرقون عنه ويأبون أن يستمعوا له ، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع ، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فظن الذي يستمع أنهم لا يسمعون شيئا من قراءته وسمع هو شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه
، وروي عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس إنما نزلت هذه الآية ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) في ذلك .

قال أبو عمر : وكان المجاهرون بالظلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به :

من بني هاشم : عمه أبا لهب ، وابن عمه أبا سفيان بن الحارث .

ومن بني عبد شمس : عتبة ، وشيبة ابني ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبا سفيان بن حرب ، وابنه حنظلة ، والحكم بن أبي العاص بن أمية ، ومعاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية .

ومن بني عبد الدار : النضر بن الحرث .

ومن بني أسد بن عبد العزى : الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ، وابنه [ ص: 203 ] زمعة ، وأبا البختري العاص بن هشام .

ومن بني زهرة : الأسود بن عبد يغوث .

ومن بني مخزوم : أبا جهل بن هشام ، وأخاه العاص بن هشام ، وعمهما الوليد بن المغيرة ، وابنه أبا قيس بن الوليد بن المغيرة ، وابن عمه قيس بن الفاكه بن المغيرة ، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة أخا أم سلمة ، وأخاه عبد الله بن أبي أمية ، والأسود بن عبد الأسد أخا أبي سلمة ، وصيفي بن السائب .

ومن بني سهم : العاص بن وائل ، وابنه عمرا ، وابن عمه الحارث بن قيس بن عدي ، ونبيها ومنبها ابني الحجاج .

ومن بني جمح : أمية ، وأبيا ابني خلف بن وهب بن حذافة بن جمح ، وأنيس بن معير أخا أبي محذورة ، والحارث بن الطلاطلة الخزاعي ، وغدي بن الحمراء الثقفي .

فهؤلاء كانوا أشد على المؤمنين مثابرة بالأذى ، ومعهم سائر قريش ، فمنهم من يعذبون - ممن لا منعة له ولا جوار - من قومه ، ومنهم من يؤذون .

ولقي المسلمون من كفار قريش وحلفائهم من الأذى والعذاب والبلاء عظيما ، ورزقهم الله من الصبر على ذلك عظيما ، ليدخر لهم ذلك في الآخرة ، ويرفع به درجاتهم في الجنة . والإسلام في كل ذلك يفشو ويظهر في الرجال والنساء . وأسلم الوليد بن الوليد بن المغيرة ، وسلمة بن هشام أخو أبي جهل ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وجماعة أراد الله هداهم .

وأسرف بنو جمح على بلال بالأذى والعذاب ، فاشتراه أبو بكر الصديق منهم واشترى أمه حمامة ، فأعتقهما ، وأعتق عامر بن فهيرة . وروي أن أبا قحافة قال لابنه أبي بكر : يا بني أراك تعتق قوما ضعفاء فلو أعتقت قوما جلداء يمنعوك ، فقال : يا أبت إني أريد ما أريد . فقيل فيه نزلت : ( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد ) إلى آخر السورة .

[ ص: 204 ] وذكر الزهري أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته ، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ، ثم انصرفوا ، حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا ، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود ، فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرقوا ، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم ذهب حتى أتى أبا سفيان في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . فقال : يا أبا ثعلبة : والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به ، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ! ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ ! قال : ماذا سمعت ؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاذينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ! والله لا نؤمن به أبدا ، ولا نصدقه ، فقام عنه الأخنس وتركه .

وذكر ابن إسحاق حديث الإراشي ، (والإراشي هذا اسمه : كهلة الأصغر بن عصام بن كهلة الأكبر بن وهب ، بن ذئبان بن سيلان ، بن مودع بن عبد الله ، وهو) الذي ابتاع منه أبو جهل الإبل ومطله بأثمانها ، ودلالة قريش إياه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينصفه من أبي جهل استهزاء؛ لما يعلمون من العداوة بينهما . قال : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى [ ص: 205 ] جاءه فضرب عليه بابه ، فقال : من هذا ؟ فقال : محمد . فخرج إليه وما في وجهه من رائحة ، قد انتقع لونه . فقال : أعط هذا حقه . قال : نعم لا تبرح حتى أعطيه الذي له ، فدفعه إليه . فذكر له الإراشي ذلك ، فقالوا لأبي جهل : ويلك ! ما رأينا مثل ما صنعت . قال : ويحكم ! والله ما هو إلا أن ضرب على بابي وسمعت صوته فملئت رعبا ، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته . ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط ، والله لو أبيت لأكلني .

وذكر الواقدي ، عن يزيد بن رومان ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد معه رجال من أصحابه ، أقبل رجل من بني زبيد يقول : يا معشر قريش ! كيف تدخل عليكم المادة أو يجلب إليكم جلب ، أو يحل تاجر بساحتكم ، وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم ؟ يقف على الحلق حلقة حلقة حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ومن ظلمك ؟ فذكر أنه قدم بثلاثة أجمال كانت خيرة إبله ، فسامه بها أبو جهل ثلث أثمانها ، ثم لم يسمه بها لأجله سائم . قال : فأكسد علي سلعتي وظلمني . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأين أجمالك ؟ قال : هي هذه بالحزورة . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم معه وقام أصحابه ، فنظر إلى الجمال فرأى الجمال فرها ، فساوم الزبيدي حتى ألحقه برضاه ، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فباع جملين منها بالثمن ، وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه ، وأبو جهل جالس في ناحية من السوق لا يتكلم ، ثم أقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا عمرو ! إياك أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الأعرابي فترى مني ما تكره .

فجعل يقول : لا أعود يا محمد ، لا أعود يا محمد ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عليه أمية بن خلف ومن حضر من القوم ، فقالوا : ذللت في يدي محمد ؛ فإما أن تكون تريد أن تتبعه ، وإما رعب دخلك منه . قال : لا أتبعه أبدا ، إن الذي رأيتم مني ؛ لما رأيت [ ص: 206 ] معه ، لقد رأيت رجالا عن يمينه وشماله معهم رماح يشرعونها إلي ، لو خالفته لكانت إياها ، أي لأتوا على نفسي
.

قال أبو عمر : وكان المستهزئون الذين قال الله فيهم : ( إنا كفيناك المستهزئين ) عمه أبا لهب ، وعقبة بن أبي معيط ، والحكم بن أبي العاصي ، والأسود بن المطلب بن أسد أبا زمعة ، والأسود بن عبد يغوث ، والعاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، والحارث بن الغيطلة السهمي . فكان جبريل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمر بهما من المستهزئين الوليد بن المغيرة ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن الغيطلة ، والعاص بن وائل واحدا بعد واحد ، فشكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ، فقال : كفيتكهم . فهلكوا بضروب من البلاء والعمى قبل الهجرة .

وفيما لقي بلال ، وعمار ، والمقداد ، وخباب ، وسعد بن أبي وقاص وغيرهم ممن لم تكن له منعة من قومه من البلاء والأذى . ما يطول ذكره .

قرأت على أبي النور إسماعيل بن نور بن قمر الهيتي بالصالحية ، أخبركم أبو نصر موسى بن الشيخ عبد القادر الجيلي قراءة عليه ، أخبرنا أبو القاسم سعيد بن أحمد بن البنا ، أخبرنا أبو نصر الزيني ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن علي بن خلف ، أخبرنا أبو بكر بن أبي داود ، حدثنا أبو موسى عيسى بن حماد زغبة ، عن الليث بن سعد ، عن هشام ، عن أبيه ، أنه قال : مر ورقة بن نوفل على بلال وهو يعذب ، يلصق ظهره برمضاء البطحاء في الحر ، وهو يقول : أحد أحد . فقال : يا بلال صبرا ، يا بلال صبرا ، لم تعذبونه فوالذي نفسي بيده لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا . يقول : لأتمسحن به .

[ ص: 207 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية