الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ابن إسحاق: وقد رمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل من المسلمين، ثم رمي حارثة بن سراقة - أحد بني عدي بن النجار وهو يشرب من الحوض - بسهم، فأصاب نحره فقتل. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم، وقال: "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة". فقال عمير بن الحمام - أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن - : بخ بخ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ قال: ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.

وقال ابن عقبة: أول قتيل من المسلمين يومئذ عمير بن الحمام.

وقال ابن سعد: فكان أول من خرج من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب، فقتله عامر بن الحضرمي، وكان أول قتيل قتل من الأنصار حارثة بن سراقة، ويقال: قتله حبان بن العرقة، ويقال: عمير بن الحمام قتله خالد بن الأعلم العقيلي.

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة; أن عوف بن الحارث - وهو ابن عفراء - قال: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟ قال: "غمسه يده في القوم حاسرا". فنزع درعا عليه، فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل. وحدثني محمد بن مسلم ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري - حليف بني زهرة - أنه حدثه أنه: لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض، قال أبو جهل: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة. فكان هو المستفتح على نفسه. قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا، ثم قال: "شاهت الوجوه". ثم نفخهم بها، وأمر أصحابه، فقال: "شدوا". فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم.

[ ص: 398 ] قال ابن عقبة ، وابن عائذ: فكانت تلك الحصباء عظيما شأنها، لم تترك من المشركين رجلا إلا ملأت عينيه، وجعل المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، وبادر النفر، كل رجل منهم - منكبا على وجهه - لا يدري أين يتوجه، يعالج التراب ينزعه من عينيه.

رجع إلى خبر ابن إسحاق: فلما وضع القوم أيديهم، يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشح السيف في نفر من الأنصار، يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟". قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال.

قال: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ: "إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله فإنما خرج مستكرها".

وذكر ابن عقبة فيهم عقيلا ، ونوفلا.

قال: فقال أبو حذيفة: أنقتل آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه السيف، قال: فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب: "يا أبا حفص!" فقال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص - "أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟"، فقال عمر: يا رسول الله! دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلتها يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيدا .

[ ص: 399 ] فلقي أبا البختري ، المجذر بن ذياد البلوي، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك. ومع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مليحة، قال: وزميلي؟ قال له المجذر: لا والله، ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك. قال: ولا والله، إذن لأموتن أنا وهو جميعا، لا تحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة. فقتله المجذر، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلني، فقاتلني فقتلته.

قال ابن عقبة: ويزعم ناس أن أبا اليسر قتل أبا البختري بن هشام، ويأبى عظم الناس إلا أن المجذر هو الذي قتله، بل قتله من غير شك أبو داود المازني وسلبه سيفه، فكان عند بنيه حتى باعه بعضهم من بعض ولد أبي البختري.

قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد ، عن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه، قال: وحدثنيه أيضا عبد الله بن أبي بكر وغيرهما، أن عبد الرحمن بن عوف لقيه أمية بن خلف، ومعه ابنه علي، ومع عبد الرحمن أدراع استلبها، قال: هل لك في؟ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك. قال: قلت: نعم، فطرحت الأدراع من يدي، فأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط! أما لكم حاجة في اللبن؟ ثم خرجت أمشي بهما.

قال: حدثني عبد الواحد بن أبي عون ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، أن أمية بن خلف قال له: من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قال: قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي، وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد. فيقول بلال: [ ص: 400 ] أحد أحد. قال: فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف؟ لا نجوت إن نجا. قال: قلت: أي بلال، أبأسيري؟ قال: لا نجوت إن نجا. قال: ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله! رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة وأنا أذب عنه. قال: فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية بن خلف صيحة ما سمعت مثلها قط. قال: فقلت: انج بنفسك ولا نجاء به، فوالله ما أغني عنك شيئا. قال: فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما. قال: فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث عن ابن عباس، قال: حدثني رجل من بني غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي، حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننتهب مع من ينتهب. قال: فبينا نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: اقدم حيزوم . فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت.

قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة، وكان قد شهد بدرا، قال بعد أن ذهب بصره: لو كنت اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي منه خرجت الملائكة، لا أشك ولا أتمارى.

قال: وحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن رجال من بني مازن بن النجار، عن أبي داود المازني - وكان شهد بدرا - قال: إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه; إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري. وحدثني من لا أتهم، عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن عباس، قال: كانت [ ص: 401 ] سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا، قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمرا.

وروينا هذا الخبر من طريق مالك بن سليمان الهروي ، عن الهياج ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن مقسم، عن ابن عباس بمعناه، ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون.

وذكر ابن هشام عن بعض أهل العلم أن جبريل عليه السلام كانت عليه يوم بدر عمامة صفراء، وكان شعارهم يوم بدر: أحد أحد.

التالي السابق


الخدمات العلمية