الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر فيما حدثني مولى لآل زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب موسى وأخيه، والمصدق لما جاء به موسى، ألا إن الله تعالى قد قال لكم يا معشر أهل التوراة، وإنكم تجدون ذلك في كتابكم: ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) وإني أنشدكم بالله، وأنشدكم بما أنزل عليكم، وأنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المن والسلوى، وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله، إلا أخبرتمونا، هل تجدون فيما أنزل عليكم أن تؤمنوا بمحمد، فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم، قد تبين الرشد من الغي، فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه" .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل ، وبشر بن البراء: يا معشر يهود! اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته. فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، ما هو بالذي كنا نذكره لكم، فأنزل الله في ذلك من قولهم: ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم [ ص: 340 ] وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) .

قال ابن إسحاق: وقال مالك بن الصيف - حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر لهم ما أخذ الله عليهم له من الميثاق، وما عهد الله إليهم فيه - : والله ما عهد إلينا في محمد عهد، وما أخذ له علينا ميثاق. فأنزل الله فيه: ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ) وقال ابن صلوبا الفطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد! ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها، فأنزل الله في ذلك من قوله: ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ) .

وقال رافع بن حريملة ، ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بكتاب تنزله من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله في ذلك: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) وكان حيي بن أخطب ، وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا، إذا خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله فيهما: ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) الآية.

ولما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى وبالإنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله تعالى: ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) الآية.

وقال رافع بن حريملة: يا محمد إن كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله فليكلمنا، فأنزل الله: ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ) .

وقال عبد الله بن [ ص: 341 ] صوريا الأعور: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله تعالى: ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ) الآية.

وسأل معاذ بن جبل ، وسعد بن معاذ ، وخارجة بن زيد نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه، فأنزل الله: ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ) الآية. ودعا عليه الصلاة والسلام اليهود إلى الإسلام، فقال له رافع ، ومالك بن عوف: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فأنزل الله تعالى: ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) ولما أصاب الله قريشا يوم بدر جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود في سوق بني قينقاع، حين قدم المدينة، فقال: يا "معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشا"، قالوا له: يا محمد! لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وإنك لم تلق مثلنا، وأنزل الله تعالى: ( قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ) الآية والتي بعدها. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له النعمان بن عمرو ، والحارث بن زيد: وعلى أي دين أنت يا محمد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه. قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلم إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم" فأبيا عليه، فأنزل الله: ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ) الآية والتي تليها.

وقال أحبار يهود: وما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت نصارى نجران: ما كان إلا نصرانيا، فأنزل الله: ( يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم ) الآيات إلى ( والله ولي المؤمنين )

.وقال عبد الله بن صيف ، وعدي بن زيد والحارث بن عوف، بعضهم لبعض: تعالوا [ ص: 342 ] نؤمن بما أنزل الله على محمد غدوة ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع، فيرجعون عن دينهم، فأنزل الله: ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) إلى قوله: ( والله واسع عليم )

. وقال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من يهود، والنصارى من أهل نجران، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟! وقال رجل من نصارى نجران مثله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن يعبد غير الله"، فأنزل الله تعالى: ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ) الآية. ثم ذكر ما أخذ عليهم من الميثاق بتصديقه فقال: ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ) إلى آخر القصة.

التالي السابق


الخدمات العلمية