الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الخبر عن مهلك أبي لهب

قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت أنا، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، فكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال، فلما جاء الخبر، عن مصاب قريش ببدر، وكنت رجلا ضعيفا أعمل الأقداح، أنحتها [ ص: 410 ] في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهري، فبينا هو جالس إذ قدم أبو سفيان بن الحارث، فقال أبو لهب: هلم إلي، فعندك الخبر. فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء، قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، قال: وثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربته به ضربة فلغت في رأسه شجة منكرة وقالت: استضعفته إن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتله.

قال ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير عنه: إنهم لم يحفروا له، ولكن أسندوه إلى حائط، وقذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط، حتى واروه.

وذكر محمد بن جرير الطبري في تاريخه: أن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها، ويرون أنها تعدي أشد العدوى، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه، وبقي بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركه، حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه. ويروى أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها.

[ ص: 411 ] قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنسوا بهم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء.

قال ابن عقبة: أقام النوح شهرا.

قال ابن إسحاق: وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود ، وعقيل بن الأسود ، والحارث بن زمعة، وكان يحب أن يبكي على بنيه، قال: فبينما هو كذلك إذ سمع صوت نائحة من الليل، فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هل أحل النحب؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة - يعني زمعة - فإن جوفي قد احترق. قال: فلما رجع إليه الغلام، قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، قال: فذلك حين يقول الأسود:


أتبكي أن يضل لها بعير وتمنعها من النوم السهود     فلا تبكي على بكر ولكن
على بدر تقاصرت الجدود



وكان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال - يعني المطلب - وكأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه". فلما قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسراكم، لا يأرب عليكم محمد وأصحابه. قال المطلب: صدقتم، لا تعجلوا، وانسل من الليل، فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم وانطلق، فبعثت قريش في فداء الأسارى، فقدم مكرز بن حفص بن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو، وكان الذي أسره مالك بن الدخشم وكان سهيل أعلم من شفته السفلى.

[ ص: 412 ] قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عمرو بن عطاء أخو بني عامر بن لؤي أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! (دعني) أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا" .

قال ابن إسحاق: وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر في هذا الحديث: إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه.

فلما قاولهم مكرز وانتهى إلى رضاهم، قالوا: هات الذي لنا. قال: اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه، ففعلوا. وكان عمرو بن أبي سفيان أسيرا في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لأبي سفيان: افد عمرا ابنك. فقال: أيجمع على دمي ومالي، قتلوا حنظلة وأفدي عمرا، دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم. قال: فبينا هو كذلك إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال أخو بني عمرو بن عوف معتمرا، فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو، ثم قال أبو سفيان:


أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه     تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو بن عوف أذلة     لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا



وفي رواية: "بني عمرو لئام أذلة". ففدي به.

وكان فيهم أبو العاص بن الربيع ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته زينب، بعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها عليه حين بنى عليها. قال: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها (قلادتها) فافعلوا". قالوا: نعم يا رسول الله! فأطلقوه وردوا عليها الذي لها.

[ ص: 413 ] وروينا من طريق أبي داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها بنحوه، وفي آخره فكان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليه، أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار، فقال: "كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب، فتصحباها حتى تأتيا بها".

وممن من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير فداء أيضا: المطلب بن حنطب ، وصيفي بن أبي رفاعة ، وأبو عزة الجمحي، وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير بن عروة بن الزبير، قال: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير في الحجر، وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناء وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: إن في العيش والله خير بعدهم. قال له عمير: صدقت، أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة، ابني أسير في أيديهم. قال: فاغتنمها صفوان، فقال: علي دينك أنا أقضيه عنك. وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم. قال عمير: فاكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل. قال: ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم. ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم من عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحا السيف. فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، وهذا الذي حرش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر، ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله! هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه. قال: "فأدخله علي". قال: فأقبل عمر حتى أخذ [ ص: 414 ] بحمالة سيفه في عنقه، فلببه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه هذا الخبيث فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه. قال: "أرسله يا عمر، ادن يا عمير. ادن يا عمير" فدنا، ثم قال: أنعموا صباحا - وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة" . قال أما والله إن كنت بها يا محمد لحديث عهد. قال: "فما جاء بك يا عمير، قال: جئت لهذا الأسير الذي فيكم، فأحسنوا فيه. قال: "فما بال السيف في عنقك"؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا! قال: "اصدقني، ما الذي جئت له؟"، قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بلى، قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيال لي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك". قال عمير: أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتي به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، والحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق. ثم تشهد شهادة الحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره"، ففعلوا ذلك، ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، فأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام لعل الله يهديهم وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أؤذي أصحابك في دينهم، قال: فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بمكة، قال: وكان صفوان حين خرج عمير يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عن الركبان، حتى قدم راكب فأخبره، عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدا وأن لا ينفعه بنفع أبدا.

[ ص: 415 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية