الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
626 - " إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم؛ وخفت أماناتهم؛ وكانوا هكذا - وشبك بين أنامله - فالزم بيتك؛ وأملك عليك لسانك؛ وخذ ما تعرف؛ ودع ما تنكر؛ وعليك بخاصة أمر نفسك؛ ودع عنك أمر العامة " ؛ (ك)؛ عن ابن عمرو .

التالي السابق


(إذا رأيت الناس) ؛ أي: وجدتهم؛ (قد مرجت) ؛ بميم؛ وجيم؛ مفتوحتين؛ بينهما راء مكسورة؛ (عهودهم) ؛ جملة حالية؛ أي: اختلفت؛ وفسدت؛ وقلت فيهم أسباب الديانات والأمانات؛ قال الزمخشري : " مرج" ؛ و" خرج" ؛ أخوان في معنى القلق والاضطراب؛ يقال: " مرج الخاتم في يدي" ؛ و" مرجت العهود والأمانات" ؛ اضطربت؛ وفسدت؛ ومنه " المرجان" ؛ لأنه أخف الحب؛ والخفة والقلق من واد واحد؛ أهـ؛ و" العهود" ؛ جمع " عهد" ؛ وهو اليمين؛ والأمان؛ والذمة؛ والحفاظ؛ ورعاية الحرمة؛ والوصية؛ قال ابن الأثير: ولا تخرج الأخبار الواردة فيه عن أحدهما؛ (وخفت) ؛ بالتشديد: قلت؛ من قولهم: " خفت القوم" ؛ قلوا؛ (أماناتهم) ؛ جمع " أمانة" ؛ ضد الخيانة؛ (وكانوا هكذا) ؛ وبين الراوي ما وقعت عليه الإشارة بقوله: (وشبك) ؛ أي: خلط؛ (بين أنامله) ؛ أي: أنامل أصابع يديه؛ إشارة إلى تموج بعضهم في بعض؛ وتلبيس أمر دينهم؛ فلا يعرف الأمين من الخائن؛ ولا البر من الفاجر؛ (فالزم بيتك) ؛ يعني: اعتزل الناس؛ وانحجب عنهم في مكانك؛ إلا لما لا بد فيه؛ (وأملك) ؛ بقطع الهمزة؛ وكسر اللام؛ (عليك لسانك) ؛ أي: احفظه وصنه؛ ولا تجره إلا فيما لك؛ لا عليك؛ أو أمسكه عما لا يعنيك؛ قال الزمخشري : من المجاز: " اخزن لسانك وسرك" ؛ وخصه لأن الأعضاء تبع له؛ فإن استقام؛ استقامت؛ وإن اعوج؛ اعوجت؛ كما مر؛ (وخذ ما تعرف) ؛ من أمر الدين؛ أي: الزم فعل ما تعرف كونه حقا من أحوالك التي تنتفع بها دنيا؛ وأخرى؛ (ودع ما تنكر) ؛ من أمر الناس؛ المخالف للشرع؛ وانظر إلى تدبير الله فيهم بقلبك؛ فإنه قسم بينهم أخلاقهم؛ كما قسم بينهم أرزاقهم؛ ولو شاء لجمعهم على خلق واحد؛ فلا تغفل عن النظر إلى تدبيره (تعالى) فيهم؛ فإذا رأيت معصية فاحمد الله؛ إذ صرفها عنك في وقتك؛ وتلطف في الأمر والنهي في رفق وصبر وسكينة؛ فإن قبل منك فاحمد الله؛ وإلا فاستغفره لتفريطك؛ واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ؛ (وعليك بخاصة نفسك) ؛ وفي رواية: " بخويصة" ؛ مصغرا؛ واستعملها في المشروع؛ وكفها عن المنهي؛ والزم أمر نفسك؛ والزم دينك؛ واترك الناس؛ ولا تتبعهم؛ قال الزمخشري : " الخويصة" ؛ تصغير " الخاصة" ؛ بسكون الياء؛ لأن ياء التصغير لا تكون إلا ساكنة؛ وجوز التقاء الساكنين فيها أن الأول حرف لين؛ والثاني مدغم؛ والمراد: حادثة الوقت التي تخص المرء؛ وصغرت لاستصغارها في جنب جميع الحوادث العظام؛ من البعث والحساب وغير ذلك؛ ثم زاد الأمر بالانجماع تأكيدا؛ دفعا لاحتمال التجوز بقوله؛ (ودع عنك أمر العامة) ؛ أي: كافة الناس؛ فليس المراد العوام فقط؛ فإذا غلب على ظنك أن المنكر لا يزول بإنكارك؛ لغلبة الابتلاء لعمومه؛ أو تسلط فاعله؛ وتحيره؛ أو خفت على نفسك؛ أو محترم غيرك؛ محذورا؛ بسبب الإنكار؛ فأنت في سعة من تركه؛ والإنكار بالقلب؛ مع الانجماع؛ وهذا رخصة في ترك الأمر بالمعروف؛ إذا كثر الأشرار؛ وضعف الأخيار.

(فائدة) : أخرج في الحلية عن أنس مرفوعا: " يأتي على الناس زمان يدعو فيه المؤمن للعامة؛ فيقول الله: ادع لخاصة نفسك أستجب لك؛ وأما العامة؛ فإني عليهم ساخط" .

(ك؛ عن ابن عمرو ) ؛ ابن العاص؛ قال: كنا جلوسا حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ ذكر الفتنة؛ فذكره؛ قال الحاكم : صحيح؛ وأقره الذهبي ؛ وقال المنذري والعراقي: سنده حسن.



الخدمات العلمية