الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
631 - " إذا رأيت كلما طلبت شيئا من أمر الآخرة؛ وابتغيته؛ يسر لك؛ وإذا أردت شيئا من أمر الدنيا وابتغيته عسر عليك؛ فاعلم أنك على حال حسنة؛ وإذا رأيت كلما طلبت شيئا من أمر الآخرة؛ وابتغيته؛ عسر عليك؛ وإذا طلبت شيئا من أمر الدنيا؛ وابتغيته؛ يسر لك؛ فأنت على حال قبيحة " ؛ ابن المبارك ؛ في الزهد؛ عن سعيد بن أبي سعيد ؛ مرسلا؛ (هب)؛ عن عمر بن الخطاب .

التالي السابق


(إذا رأيت كلما) ؛ بالنصب؛ على الظرفية؛ (طلبت شيئا من أمر الآخرة) ؛ أي: من الأمور المتعلقة بها؛ (وابتغيته؛ يسر) ؛ بضم المثناة تحت؛ وكسر السين؛ مشددة؛ بضبط المؤلف؛ (لك) ؛ أي: تهيأ وحصل بسهولة؛ (وإذا أردت شيئا من أمور الدنيا) ؛ أي: من الأمور المتعلقة بها؛ من نيل اللذات؛ والتوسع في الشهوات؛ ولا يدخل فيه طلب الكسب الحلال؛ وتيسر حصوله؛ (وابتغيته؛ عسر عليك) ؛ أي: صعب؛ فلم يحصل إلا بتعب وكلفة؛ (فاعلم [ ص: 356 ] أنك على حال حسنة) ؛ أي: دالة على كونك من السعداء؛ لأنه (تعالى) إنما زوى عنك الدنيا؛ وعرضك للبلاء؛ لينقيك من دنسك؛ ويريحك في الآخرة؛ ويرفع درجتك؛ ألا ترى أن الدواء الكريه نعمة في حق المريض؟! وقد يكون المال والأهل سببا للهلاك؛ وهو أعلم بما يصلح فيه عباده؛ وهذا كالذي بعده غالبي؛ وقد يكون على حالة حسنة؛ مع تيسير الدنيا؛ وهذا يكون على حالة قبيحة مع عدمه؛ ثم إن قلت: " الابتغاء" : الطلب - كما في الصحاح -؛ فكيف عطف عليه؟ قلت: الطلب أعم؛ والابتغاء أخص؛ كما قال الراغب : " الابتغاء" ؛ بالاجتهاد في الطلب؛ فمتى كان الطلب بشيء محمود؛ فالابتغاء فيه محمود؛ وكذا عكسه؛ و" العسر" : الصعوبة الشديدة؛ و" اليسر" - بالضم -: ضده؛ و" الحال" - كما قال الراغب -: ما يخص به الإنسان وغيره؛ من الأمور المتغيرة في نفسه؛ وجسمه؛ وصفاته؛ والحال صفة شيء؛ يذكر ويؤنث؛ فيقال: " حال حسن؛ وحسنة" ؛ (وإذا رأيت كلما طلبت شيئا من أمر الآخرة؛ وابتغيته؛ عسر عليك؛ وإذا طلبت شيئا من أمر الدنيا؛ وابتغيته؛ يسر لك؛ فأنت على حال قبيحة) ؛ فإن النعم محن؛ والله يبلو بالنعمة؛ كما يبلو بالنقمة: ونبلوكم بالشر والخير فتنة ؛ ومن ثم قال أبو حازم : كل نعمة لا تقرب من الله؛ فهي بلية؛ ومن وسع عليه في دنياه؛ ولم يعلم أنه مكر به؛ فهو مخدوع؛ وفي تاريخ الخطيب عن الحصرمي: لا يغرنكم صفاء الأوقات؛ فإن تحتها آفات؛ ولا يغرنكم العطاء؛ فإنه عند أهل الصفاء مقت؛ وفي تاريخ ابن عساكر : كان عيسى - عليه السلام - إذا أصابته شدة؛ فرح واستبشر؛ وإذا أصابه رخاء؛ خاف وحزن؛ وفي الإحياء؛ عن وهب : التقى ملكان في السماء الرابعة؛ فقال أحدهما للآخر: " إلى أين؟" ؛ قال: " أمرت بسوق حوت من البحر؛ اشتهاه فلان اليهودي؛ لعنه الله" ؛ وقال الآخر: " أمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد" ؛ قال الغزالي: فهذا تنبيه على أن تيسير أسباب الشهوة ليس من علامات الخير؛ واعلم أن القسمة رباعية: القسم الأول: إذا طلب شيئا من الآخرة؛ تيسر له؛ وإذا طلب شيئا من الدنيا تعسر عليه؛ الثاني: عكسه؛ والثالث: إذا طلبهما تيسرا؛ والرابع: إذا طلبهما تعسرا؛ فذكر في الحديث الأولين؛ وترك الآخرين؛ لوضوحهما؛ فالثالث من علامة السعادة؛ والرابع من علامة الشقاوة؛ وأشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا؛ وعذاب الآخرة؛ وعلم مما تقرر: إذا أراد الله هلاك عبد؛ ضاعف عقابه من حيث لا يعلم ما يراد به؛ وذلك بأن يرادف عليه النعم؛ فيزداد أشرا وبطرا وانهماكا في الدنيا؛ وحرصا عليها؛ فيظن أنه لطف من الله به؛ وتقريب؛ وإكرام؛ وهو قهر وتبعيد وإذلال؛ نعوذ بالله من ذلك الحال؛ قال في الحكم: من جهل المريد أن يسيء الأدب؛ فيؤخر العقوبة عنه؛ فيقول: لو كان هذا سوء أدب؛ لقطع الإمداد؛ وأوجب البعاد؛ وقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر؛ ولو لم يكن إلا منع المزيد؛ وقد يقوم مقام البعد من حيث لا يدري؛ ولو لم يكن إلا أن يخليه وما يريد.

( ابن المبارك ؛ في) ؛ كتاب؛ (الزهد؛ عن سعيد بن أبي سعيد ) ؛ كيسان المقبري؛ (مرسلا) ؛ أرسله عن أبي هريرة وغيره؛ قال أحمد : لا بأس به؛ (هب؛ عن عمر) ؛ ابن الخطاب ؛ ظاهر صنيع المؤلف أن البيهقي خرجه؛ وأقره؛ ولا كذلك؛ بل تعقبه بما نصه: هكذا جاء منقطعا؛ أهـ؛ فحذف ذلك من كلامه غير صواب؛ ورمزه لحسنه غير حسن؛ إلا أن يريد أنه لغيره.



الخدمات العلمية