الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
506 - " إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه؛ وإذا دخل الخلاء؛ فلا يتمسح بيمينه؛ وإذا شرب؛ فلا يتنفس في الإناء " ؛ (حم ق 4) ؛ عن أبي قتادة ؛ (صح).

التالي السابق


(إذا بال أحدكم) ؛ أي: شرع في البول؛ والمراد به مس الذكر عند الاستبراء منه؛ ولا يصح كون " بال" ؛ بمعنى " فرغ" ؛ إذ [ ص: 310 ] يكون معناه النهي عن مس الذكر باليمين في الاستنجاء؛ ولا يصح؛ إذ يصير حينئذ قوله بعده: " وإذا دخل الخلاء" ؛ فلا يتمسح تكرارا؛ ذكره العراقي؛ (فلا يمس ذكره بيمينه) ؛ تكريما لليمين؛ فيكره مسه بها بلا حاجة؛ تنزيها؛ عند الشافعية؛ وتحريما؛ عند الحنابلة؛ والظاهرية؛ تمسكا بظاهر النهي؛ وأفهم تقييده المس بحالة البول عدم كراهته في غير تلك الحالة؛ وبه أخذ بعضهم؛ فقال: ووجه التخصيص أن مجاور الشيء حكمه؛ فلما منع الاستنجاء باليمين منع مس آلته في تلك الحالة؛ ولا ينافيه ما في مسلم والترمذي والنسائي ؛ من إطلاق النهي؛ لوجوب حمل المطلق على المقيد؛ فإن الحديث واحد؛ والمخرج واحد؛ لا خلاف في حمل المطلق على المقيد عند اتحاد الواقعة؛ انتهى؛ لكن الأصح - كما قال النووي - لا فرق بين حالة الاستنجاء وغيرها؛ ولا يلزم منه ترك حمل العام على الخاص؛ إذ لا محذور فيه هنا؛ لأن ذلك محله إذا لم يخرج القيد مخرج الغالب؛ ولم يكن العام أولى بالحكم؛ وإنما ذكر حالة الاستنجاء في الحديث؛ تنبيها على ما سواها؛ لأنه إذا كره المس باليمين حالة الاستنجاء؛ مع مظنة الحاجة؛ فغيره أولى؛ ولأن الغالب أنه لا يحصل مس الذكر إلا في تلك الحالة؛ فخصت بالذكر؛ لغلبة حضورها في الذهن؛ وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له؛ والحق أن هذا من ذكر بعض أفراد العموم؛ لا من المطلق والمقيد؛ لأن الأفعال في حكم النكرات؛ والنكرة في سياق النفي؛ نعم؛ والحديث لا يشمل النساء؛ لأن لفظ " أحد" ؛ هنا؛ بمعنى " واحد" ؛ فلو أريد المؤنث لقيل: " إحدى" ؛ لكنهن ملحقات بهم قياسا؛ لأن علة النهي إكرام اليمين؛ وصونها عن النجس؛ والقذر؛ ومحله؛ وهو موجود في الأنثى؛ والمنهي عنه المس بغير حائل؛ فلو مس ذكره به؛ لم يكره؛ لأنه لم يمسه حقيقة؛ بل الثوب؛ والدبر كالذكر؛ بل أولى؛ فإن الذكر يحتاج لمسه في نحو الاستبراء؛ بخلاف الدبر؛ ووهم الطيبي؛ وخرج بإضافة الذكر إلى البائل ذكر غيره؛ فيحرم مسه مطلقا؛ إلا في الضرورة.

(تنبيه) : استشكل النهي عن مس الذكر بيمينه؛ وعن الاستنجاء بها؛ بأنه متعذر؛ لأنه إن أمسك ذكره بيساره استنجى بيمينه؛ وإن استنجى بيساره أمسك ذكره بيمينه؛ فوقع في منهي بكل حال؛ وأجيب بأنه يمسك الحجر بيمينه؛ والذكر بيساره؛ ويمسحه عليه؛ ولا يحرك اليمين؛ (وإذا دخل الخلاء) ؛ أي: فبال؛ أو تغوط؛ (فلا يتمسح) ؛ أي: يستنج؛ (بيمينه) ؛ بل يفعل ذلك بيساره؛ لأن اليمين لما شرف وعلا؛ واليسار لما خس ودنا؛ ولأنه إذا باشر النجاسة بها؛ فقد يذكر عند تناول الطعام ما باشر بيمينه؛ فينفر طبعه؛ وعلم بما تقرر أن معنى " لا يتمسح بيمينه" : لا يجعلها آلة لاستعمال الماء والحجر؛ الذي يستنجى به؛ فإنه مكروه تنزيها؛ أو تحريما؛ على ما تقرر؛ أما الاستنجاء بها بمعنى جعلها بمنزلة الجامد؛ فحرام؛ غير مجزئ بها؛ وباليسار؛ بل وسائر أجزائه؛ كما هو بين؛ والنهي عن التمسح بها يشمل الفرجين؛ (وإذا شرب؛ فلا يتنفس) ؛ جملة خبرية مستقلة؛ إن كانت " لا" ؛ نافية؛ ومعطوفة إن كانت ناهية؛ لكن لا يلزم من كون المعطوف عليه مقيدا بقيد كون المعطوف مقيدا به؛ لأن التنفس لا يتعلق بحالة البول؛ بل حكم مستقل؛ وحكمة ذكره هنا أن غالب أخلاق المؤمنين التأسي بأفعال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد كان إذا بال توضأ؛ وثبت أنه شرب فضل وضوئه؛ والتنفس في الإناء خاص بحالة الشرب؛ (في) ؛ داخل؛ (الإناء) ؛ أي: لا يخرج نفسه فيه؛ بل يفصل القدح عن فيه؛ ثم يتنفس؛ لئلا يتقذر الماء؛ أو نحوه به؛ وليأمن خروج شيء تعافه النفس من الفم؛ وكل ذي رئة يتنفس بالمعنى المذكور؛ واعلم أن هذا لفظ الجماعة؛ ولفظ أبي داود وحده: " وإذا شرب؛ فلا يشرب نفسا واحدا" ؛ فيكره الشرب بنفس واحد؛ تنزيها؛ لأنه إذا استوفى شربه نفسا واحدا تكابس الماء في موارد حلقه؛ وأثقل معدته؛ فلهذا جاء في حديث يأتي: " الكباد من العب" ؛ فإذا قطع شربه في أنفاس ثلاثة؛ كان أنفع؛ وأخف؛ ولا منافاة بين هذا؛ وحديث أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الإناء ثلاثا؛ لأن المنهي التنفس في نفس الإناء؛ وأما خارجه فلا نزاع في ندبه؛ نقله الولي العراقي عن ابن المنذر .

(حم ق 4؛ عن أبي قتادة) ؛ الأنصاري ؛ واسمه الحارث ؛ أو النعمان؛ أو عمرو بن ربعي.



الخدمات العلمية