الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
188 - " اجعلوا بينكم؛ وبين الحرام سترا من الحلال؛ من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه؛ ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى؛ يوشك أن يقع فيه؛ وإن لكل ملك حمى؛ وإن حمى الله في الأرض محارمه " ؛ (حب طب) ؛ عن النعمان بن بشير ؛ (صح).

التالي السابق


(اجعلوا بينكم؛ وبين الحرام سترا) ؛ أي: وقاية؛ (من الحلال) ؛ وهو واحد الستور؛ قال الزمخشري : من المجاز: " رجل مستور" ؛ و" هتك الله ستره" ؛ أطلع على مساويه؛ و" فلان لا يستتر من الله بستر" ؛ أي: لا يتقي الله؛ فإن (من فعل ذلك) ؛ أي: جعل بينه؛ وبين الحرام سترا؛ فقد (استبرأ) ؛ بالهمز؛ وقد تخفف؛ طلب البراءة؛ (لعرضه) ؛ بصونه عما يشينه؛ ويعيبه؛ وفي المختار: " الاستبراء" : عبارة عن التبصر والتعرف احتياطا؛ (ودينه) ؛ عن الذم الشرعي؛ و" العرض" ؛ بكسر العين: موضع المدح والذم من الإنسان؛ كما قاله بعض الأعيان؛ قال الزمخشري : تقول: " اعترض فلان عرضي" ؛ إذا وقع فيه؛ وتنقصه؛ ومن زعم كالشهاب ابن حجر الهيتمي أن المراد هنا الحسب وما يعده الإنسان من مفاخره ومفاخر آبائه؛ فكأنه نقله من اللغة؛ غير ناظر إلى ما يلائم السياق في هذا المحل بخصوصه؛ ومقصود الحديث أن الحلال إذا خيف أن يتولد من فعله خور شرعي في نفسه؛ أو أهله؛ أو سلفه؛ تعين تجنبه؛ ليسلم من الذم والعيب والعذاب؛ ويدخل في زمرة المتقين؛ (ومن أرتع فيه) ؛ أي: أكل ما شاء؛ وتبسط في المطاعم؛ والملابس؛ كيفما أحب؛ يقال: " رتعت الماشية" ؛ أكلت ما شاءت؛ قال الزمخشري : من المجاز: " رتع القوم" ؛ أكلوا ما شاؤوا في رغد وسعة؛ (كان كالمرتع) ؛ بضم الميم؛ وكسر التاء؛ (إلى جنب الحمى) ؛ أي: جانبه؛ من إطلاق المصدر على المفعول؛ أي: المحمي؛ وهو الذي لا يقربه أحد؛ احتراما لمالكه؛ قال الراغب : وأصل " الجنب" : الجارحة؛ ثم يستعار في الناحية التي تليها؛ كعادتهم في استعمال سائر الجوارح لذلك؛ نحو: " اليمين" ؛ و" الشمال" ؛ وقال الزمخشري : " حميت المكان" ؛ منعته أن يقرب؛ فإذا امتنع وعز؛ قلت: " أحميته" ؛ أي: صيرته حمى؛ فلا يكون حمى إلا بعد الحماية؛ ومن المجاز: " حميته أن يفعل كذا" ؛ إذا منعته؛ (يوشك) ؛ بضم المثناة تحت؛ وكسر المعجمة؛ مضارع " أوشك" ؛ بفتحها؛ وهو من أفعال المقاربة؛ وقد وضع لدنو الخبر؛ مثل: " كاد" ؛ و" عسى" ؛ في الاستعمال؛ فيجوز: " أوشك زيد يجيء" ؛ و" أوشك أن يجيء زيد" ؛ على الأوجه الثلاثة؛ معناه هنا: يسرع؛ أو يقرب؛ (أن يقع) ؛ بفتح القاف فيه؛ وفي ماضيه؛ (فيه) ؛ أي: تأكل ماشيته منه؛ فيعاقب؛ والوقوع في شيء: السقوط فيه؛ وكل سقوط شديد يعبر عنه به؛ فكما أن الراعي الخائف من عقوبة السلطان يبعد لاستلزام القرب الوقوع المترتب عليه العقاب؛ فكذا حمى الله؛ أي: محارمه التي حظرها؛ لا ينبغي قرب حماها؛ ليسلم من ورطتها؛ ومن ثم قال الله (تعالى): تلك حدود الله فلا تقربوها ؛ فنهى عن المقاربة؛ حذرا من المواقعة؛ إذ القرب من الشيء يورث داعية وميلا؛ يأخذ بمجامع القلب؛ ويلهيه عما هو مقتضى الشرع؛ وقد حرمت أشياء كثيرة لا مفسدة فيها؛ لكونها تجر إليها؛ (وإن لكل ملك) ؛ من ملوك العرب؛ (حمى) ؛ يحميه عن الناس؛ فلا يقربه أحد؛ خوفا من سطوته؛ كان الواحد من أشرافهم إذا أراد أن يترك لقومه مرعى؛ استعوى كلبا؛ فما بلغه صوته من كل جهة حظره على غيره؛ (وإن حمى الله في الأرض) ؛ في رواية: " في أرضه" ؛ (محارمه) ؛ معاصيه؛ كما في رواية أبي داود؛ من دخل حماه بارتكاب شيء منها استحق العقوبة؛ ومن قارب يوشك أن يقع فيه؛ فالمحتاط لنفسه؛ ولدينه؛ لا يقاربه؛ ولا يفعل ما يقربه منه؛ وهذا السياق من المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إقامة برهان عظيم على تجنب الشبهات.

(حم طب؛ عن النعمان بن بشير ) ؛ لم يرمز المصنف له بشيء؛ وسها من زعم أنه رمز لحسنه؛ قال الهيتمي: رجاله رجال الصحيح؛ غير شيخ الطبراني ؛ المقدام بن داود؛ وقد وثق على ضعف فيه.



الخدمات العلمية