الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أما بعد : فإن مقصد ذوي الألباب لقاء الله تعالى في دار الثواب ولا طريق إلى الوصول للقاء الله إلا بالعلم والعمل ولا تمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة والأقوات والتناول منها بقدر الحاجة على تكرر الأوقات فمن هذا الوجه قال بعض السلف الصالحين إن : الأكل من الدين وعليه نبه رب العالمين بقوله وهو أصدق القائلين : كلوا من الطيبات واعملوا صالحا فمن يقدم على الأكل ليستعين به على العلم والعمل ويقوى به على التقوى فلا ينبغي أن يترك نفسه مهملا سدى يسترسل في الأكل استرسال البهائم في المرعى فإن ما هو ذريعة إلى الدين ووسيلة إليه ينبغي أن تظهر أنوار الدين عليه .

وإنما أنوار الدين آدابه وسننه التي يزم العبد بزمامها ويلجم المتقي بلجامها حتى يتزن بميزان الشرع شهوة الطعام في إقدامها وإحجامها فيصير بسببها مدفعة للوزر ومجلبة للأجر وإن كان فيها أوفى حظ للنفس .

قال صلى الله عليه وسلم : إن الرجل ليؤجر حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه وإلى في امرأته .

وإنما ذلك إذا رفعها بالدين وللدين مراعيا فيه آدابه ووظائفه .

وها نحن نرشد إلى وظائف الدين في الأكل : فرائضها وسننها وآدابها ومروءاتها وهيئاتها في أربعة أبواب وفصل في آخرها:

الباب الأول : فيما لا بد للآكل من مراعاته وإن انفرد بالأكل .

الباب الثاني : فيما يزيد من الآداب بسبب الاجتماع على الأكل .

الباب الثالث : فيما يخص تقديم الطعام إلى الإخوان الزائرين .

الباب الرابع : فيما يخص الدعوة والضيافة وأشباهها .

التالي السابق


(أما بعد: فإن مقصد أولي الألباب) أي: مطمح نظرهم من قصدهم، وأولو الألباب أصحاب العقول الزكية الراجحة (لقاء الله سبحانه) والنظر إليه (في دار الثواب) أي: الجنة، (ولا طريق للوصول إلى اللقاء) المذكور (إلا بالعلم) بالله (والعمل) لله تعالى، وهو المدبر بالعلم المذكور، (ولا يمكن المواظبة) أي: المداومة (عليهما) على وجه الكمال (إلا بسلامة البدن) الذي هو مسكن الروح الإنساني من العلل والعوارض، (ولا يصفو سلامة البدن) بحفظه ومراعاته (إلا بالأطعمة والأقوات) المغذية له، (والتناول منها قدر الحاجة) أي: قدر ما يحتاج إليه البدن مع محبته له (على تكرر الأوقات) ، فمع تكررها يتكرر التناول، (فمن هذا الوجه قال بعض السلف الصالحين:) يعني به الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، كما صرح به صاحب "القوت "، (أن الأكل من الدين) قدمه الله على العمل، (وعليه نبه رب العالمين) جل شأنه (وهو أصدق القائلين: كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ) وكان سهل يقول: من لم يحسن أدب الأكل لم يحسن أدب العمل، (فمن يقدم على الأكل) بنية صالحة وهي (يستعين به على العلم والعمل) أي: على تحصيلهما (ويقوى به على التقوى) وهو صيانة النفس عما تستحق به العقوبة (فلا ينبغي أن يترك نفسه مهملا سدى) وهو بالضم مقصورا يقال: تركته سدى أي: مهملا، فذكره بعد المهمل تأكيد (يسترسل في الأكل استرسال البهائم في المرعى) فيأكل من غير قانون ينتهي إليه كما تأكل الدواب، (فإنما هو) أي: الأكل (ذريعة إلى الدين ووسيلة إليه) أي: إلى إقامته (ينبغي أن تظهر) أشعة (أنوار الدين عليه، وإنما أنوار الدين آدابه وسنته التي يزم العبد بزمامها) ، وأصل الزمام بالكسر الخيط الذي يشد في البرة أو في الخشاش ثم يشد إليه المقود، ثم سمي به المقود نفسه، وقد زمه زما شد عليه زمامه، (ويلجم المتقي بلجامها) وهو ما يشد به فم الفرس، عربي، وقيل: معرب (حتى يتزن بميزان الشرع شهوة الطعام في إقدامها وإحجامها) أي: التأخر عنها، (فيصير بسببها مدفعة للوزر) [ ص: 211 ] أي: محملا لدفعه (ومجلبة للأجر) أي: محلا لجلبه، (وإن كان فيها أو في حظ النفس. قال -صلى الله عليه وسلم-: إن الرجل ليؤجر) أي: يثاب (حتى اللقمة يرفعها إلى فيه) أي: إلى فمه (وإلى في امرأته) أي: فمها. كذا أورده صاحب "القوت " .

وقال العراقي : رواه البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص" وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك".

(وإنما ذلك إذا رفعها بالدين وللدين) أي:... (مراعيا فيه آدابه ووظائفه. وها نحن نرشد إلى وظائف الدين في الأكل: فرائضها وسننها وآدابها ومروآتها وهيئاتها في أربعة أبواب و) زيادة (فصل في آخرها) لبيان متممات (الأبواب: الباب الأول: فيما لا بد للآكل من مراعاته وإن انفرد بالأكل) وحده .

(الباب الثاني: فيما يزيد من الآداب بسبب الاجتماع على الأكل) أي: مع جماعة .

(الباب الثالث: فيما يخص تقديم الطعام إلى الإخوان الزائرين) الداخلين إليه بقصد الزيارة من غير طلب .

(الباب الرابع: فيما يخص الدعوة والضيافة وأسبابها) . فهذه أربعة أبواب تجمع جميع الآداب والسنن المعروفة .




الخدمات العلمية