الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الآثار:

قال " خالد بن معدان يقول الله عز وجل : " إن أحب عبادي إلي المتحابون بحبي والمتعلقة قلوبهم بالمساجد ، والمستغفرون بالأسحار ، أولئك الذين إذا أردت أهل الأرض بعقوبة ذكرتهم فتركتهم وصرفت العقوبة عنهم .

" وقال قتادة رحمه الله القرآن يدلكم عن دائكم ودوائكم ، أما داؤكم فالذنوب ، وأما دواؤكم فالاستغفار وقال علي كرم الله وجهه : " العجب ممن يهلك ومعه النجاة ، قيل : وما هي ؟ قال : الاستغفار " وكان يقول : ما ألهم الله سبحانه عبدا الاستغفار وهو يريد أن يعذبه .

وقال الفضيل قول العبد : أستغفر الله ، تفسيرها : أقلني وقال بعض العلماء : العبد بين ذنب ونعمة لا يصلحهما إلا الحمد والاستغفار وقال الربيع بن خيثم رحمه الله لا يقولن أحدكم : أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنبا وكذبا إن لم يفعل ، ولكن ليقل : اللهم اغفر لي وتب علي .

قال الفضيل رحمه الله الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين، وقالت رابعة العدوية رحمها الله استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير .

قال بعض الحكماء : من قدم الاستغفار على الندم كان مستهزئا بالله عز وجل وهو لا يعلم وسمع أعرابي وهو متعلق بأستار الكعبة يقول : اللهم إن استغفاري مع إصراري للؤم ، وإن تركي استغفارك مع علمي بسعة عفوك لعجز فكم تتحبب إلي بالنعم مع غناك عني وكم أتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك يا من إذا وعد وفى وإذا أوعد عفا أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك يا أرحم الراحمين وقال أبو عبد الله الوراق : لو كان عليك مثل عدد القطر وزبد البحر ذنوبا لمحيت عنك إذا دعوت ربك بهذا الدعاء مخلصا إن شاء الله تعالى اللهم إني أستغفرك من كل ذنب تبت إليك منه ثم عدت فيه وأستغفرك من كل ما وعدتك به من نفسي ولم أوف لك به وأستغفرك من كل عمل أرد به وجهك فخالطه غيرك وأستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي فاستعنت بها على معصيتك ، وأستغفرك يا عالم الغيب والشهادة من كل ذنب أتيته في ضياء النهار وسواد الليل ، في ملأ أو خلاء ، وسر وعلانية يا حليم ويقال : إنه استغفار آدم عليه السلام، وقيل الخضر عليه الصلاة والسلام .

التالي السابق


ذكر ( الآثار) الواردة في فضل الاستغفار

( قال خالد بن معدان) الكلاعي، تابعي جليل، وفقيه كبير، ثبت، مهيب، مخلص، يقال: كان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة. روى عن معاوية وابن عمر وابن عمرو وثوبان، وعنه: ثور وصفوان بن عمرو ويحيى، توفي سنة 145 .

( قال الله -عز وجل-: "إن أحب عبادي إلي المتحابون بحبي) أي: لأجلي ( والمعلقة قلوبهم بالمساجد، والمستغفرون بالأسحار، أولئك الذين إذا أردت أهل الأرض بعقوبة ذكرتهم وتركتهم وصرفت العقوبة عنهم") .

قلت: وهذا قد روي مرفوعا من حديث أنس، رواه البيهقي في السنن، ولفظه: "يقول الله -عز وجل-: إني لأهم بأهل الأرض عذابا، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي المتحابين في، وإلى المستغفرين بالأسحار، صرفت عنهم".

( وقال) أبو الخطاب ( قتادة) بن دعامة السدوسي -رحمه الله تعالى-: ( القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، أما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار) من ذلك قوله تعالى: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون في جملة من الآيات .

( وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "العجب ممن يهلك ومعه النجاة، قيل: وما هي؟ قال: الاستغفار") فالمراد من الهلاك هنا أي: من داء الذنوب؛ فإن نجاته منها الاستغفار، مع عدم الإصرار .

( وكان يقال: ما ألهم الله سبحانه عبدا الاستغفار وهو يريد أن يعذبه) أي: لو أراد بعذابه ما ألهمه ذلك .

ويروى عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- رفعه: "عودوا ألسنتكم الاستغفار؛ فإن الله تعالى لم يعلمكم الاستغفار إلا وهو يريد أن يغفر".

( وقال الفضيل) بن عياض -رحمه الله تعالى-: ( قول العبد: أستغفر الله، تفسيرها: أقلني) أي: من عثرات ذنوبي ( وقال بعض العلماء: العبد بين ذنب ونعمة لا يصلحهما إلا الحمد) لله على نعمته ( والاستغفار) من الذنب الذي اقترفه .

( وقال الربيع بن خثيم) تقدمت ترجمته: ( لا يقولن أحدكم: أستغفر الله وأتوب إليه فيكون) قوله ذلك ( ذنبا وكذبة إن لم يفعل، ولكن ليقل: اللهم اغفر لي وتب علي) ونقل هذا القول الإمام أبو جعفر الطحاوي، عن شيخه الإمام أبي جعفر بن أبي عمران، ولفظه: "يكره أن يقول الرجل: أستغفر الله وأتوب إليه، ولكن يقول: أستغفر الله وأسأله التوبة" .

وقال: رأيت أصحابنا يكرهون ذلك، ويقولون في التوبة من الذنوب هي تركه وترك العود عليه، وذلك غير موهوم من أحد، فإذا قال: أتوب إليه، فقد وعد الله أن لا يعود إلى ذلك الذنب، فإذا عاد إليه بعد ذلك كان كمن وعد الله ثم أخلفه، ولكن أحسن ذلك أن يقول: أسأل الله التوبة، أي: أسأل الله أن ينزعني عن هذا الذنب ولا يعيدني إليه أبدا .

وكان من الحجة لهم في ذلك عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "التوبة من الذنوب أن يتوب الرجل من الذنب، ثم لا يعود إليه" فهذه صفة التوبة، وهذا غير مأمون على أحد غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه معصوم، فلا ينبغي لغيره -صلى الله عليه [ ص: 62 ] وسلم- أن يقول ذلك؛ لأنه غير معصوم من العود فيما تاب عنه .

قال: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا به بأسا أن يقول الرجل: أتوب إلى الله -عز وجل- وحجتهم ما روي عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من جلس مجلسا كثر فيه لغطه، ثم قال قبل أن يقوم: سبحانك ربنا، لا إله إلا أنت، أستغفرك ثم أتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك".

وعن أنس، رفعه، قال: "كفارة المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك".

فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد روي عنه أيضا ما ذكرنا، وهو أولى القولين عندنا؛ لأن الله -عز وجل- قد أمرنا بذلك في كتابه، قال: فتوبوا إلى بارئكم وقال: توبوا إلى الله توبة نصوحا وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الآثار التي ذكرنا؛ فلهذا أبحنا ذلك، وخالفنا أبا جعفر بن أبي عمران فيما ذهب إليه فيما ذكرناه أولا. اهـ كلام أبي جعفر الطحاوي بالاختصار .

( وقال الفضيل) بن عياض -رحمه الله تعالى-: ( الاستغفار بلا إقلاع) عن المعصية ( توبة الكذابين) أي: فإن الذي يستغفر وهو معتقد أن يعود إلى ما تاب فهو بذلك القول فاسق معاقب عليه؛ لأنه كذب على الله فيما قال .

( وقالت رابعة العدوية) البصرية -رحمها الله تعالى-: ( استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير) وهو يشير إلى ما ذكرناه من أن التلفظ باللسان من غير اعتقاد القلب على ترك العود إلى ما استغفر منه ذنب، وهذا يلزم منه الدور والتسلسل، ولا يقطع ذلك إلا صدق القلب على ترك ما استغفر منه، والندم بالجزم على ألا يعود إليه أبدا.

( وقال بعض الحكماء: من قدم الاستغفار على الندم كان مستهزئا على الله -عز وجل- وهو لا يعلم) أي: من استغفر ولم يندم على ما أصاب من ذلك الذنب فكأنه استهزأ على ربه -عز وجل- وهو لا يدري؛ فإن الندم توبة، كما ورد ذلك من حديث عبد الله بن مغفل، فإذا لم يوجد الندم كان استغفاره كالعبث .

( وسمع أعرابي وهو متعلق بأستار الكعبة يقول: اللهم إن استغفاري إياك) من ذنب ( مع إصراري) عليه وعدم إقلاعي ( للؤم، وإن ترك استغفارك مع علمي بسعة عفوك لهجر) أي: منكر ( فكم) يا مولاي ( تتحبب إلي بالنعم) الكثيرة ( مع غناك عني) مطلقا ( وأتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك) بالذات ( يا من إذا وعد وفى وإذا تواعد عفا) وهكذا شأن الكريم ( أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك يا أرحم الراحمين) وهو من الأدعية الجامعة لشروطها من البداية بالاسم الأعظم، الذي هو اللهم، ثم الإقرار بالذنب، ثم إثبات سعة العفو والغنى والوفاء بالوعد، ثم السؤال مع التضرع، ثم الختم باسمه الأعظم الذي هو أرحم الراحمين .

( وقال أبو عبد الله الوراق: لو كان عليك مثل عدد القطر وزبد البحر ذنوبا لمحيت عنك إذا دعوت بهذا الدعاء مخلصا إن شاء الله تعالى) أي: بشرط الإخلاص فيما يدعو به، وهو هذا: ( اللهم إني أستغفرك من كل ذنب) صدر مني، و ( تبت إليك منه) معتقدا بقلبي عدم العود إليه ( ثم عدت فيه) بشؤم نفسي وجهلي ( وأستغفرك من كل ما وعدتك به من نفسي) من بر وخير، ولفظ القوت: "من كل عقد عقدته لك" ( ثم لم أوف لك به) لكمال تقصيري واتباعي النفس الأمارة ( وأستغفرك من كل عمل) من أعمال الخير ( أردت به وجهك) خالصا من غير مخالطة السوى ( فخالطه غيرك) في ذلك العمل، ولفظ القوت: "ما ليس لك" ( وأستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي) لأستعين بها على طاعتك ( فاستعنت بها على معصيتك، وأستغفرك يا عالم الغيب والشهادة) أي: بالنسبة إلينا، وإلا فالعوالم كلها شهادة لديه -عز وجل- ( من كل ذنب أتيته في ضياء النهار وسواد الليل، في ملأ أو خلاء، وسر وعلانية يا حليم) ختم بهذا الاسم الكريم؛ لينبه على أنه -جل وعز- لا يؤاخذ عبده بما جنته يداه ( ويقال: إنه استغفار الخضر عليه السلام) نقله صاحب القوت، ويقال: إنه استغفار آدم -عليه السلام- كما وجد في بعض نسخ الكتاب، وقد رتبه بعض العلماء ترتيبا حسنا، وجعله على الأيام السبعة، وزاد فيه زيادات، وعزاه إلى الحسن البصري، وقد وقع إليه مسندا .




الخدمات العلمية