الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان أوراد الليل وهي خمسة .

الأول : إذا غربت الشمس صلى المغرب واشتغل بإحياء ما بين العشاءين فآخر هذا الورد عند غيبوبة الشفق أعني الحمرة التي بغيبوبتها يدخل وقت العتمة وقد أقسم الله تعالى به فقال : فلا أقسم بالشفق والصلاة فيه هي ناشئة الليل لأنه أول نشوء ساعاته وهو آن من الآناء المذكورة في قوله تعالى : ومن آناء الليل فسبح وهي صلاة الأوابين وهي : المراد بقوله تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع روي ذلك عن الحسن وأسنده ابن أبي زياد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية فقال صلى الله عليه وسلم : " الصلاة بين العشاءين " ثم قال صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالصلاة بين العشاءين ؛ فإنها تذهب بملاغات النهار وتهذب آخره والملاغات " جمع ملغاة ، من اللغو وسئل أنس رحمه الله عمن ينام بين العشاءين، فقال : لا تفعل فإنها الساعة المعنية بقوله تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع وسيأتي فضل إحياء ما بين العشاءين في الباب الثاني وترتيب هذا الورد أن يصلي

التالي السابق


* ( بيان أوراد الليل وهي خمسة) *

( الأول: إذا غربت الشمس صلى المغرب) كما سبق ( واشتغل بإحياء ما بين العشاءين) إذ هو من أهم الأمور عندهم ( وآخر هذا الورد غيبوبة الشفق) محركة ( أعني الحمرة التي بغيبوبتها يدخل وقت العشاء الآخرة) وفي هذه المسالة اختلاف بين أئمة اللغة وبين الفقهاء، ففي المفردات للراغب: الشفق اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس، وفي المصباح: الشفق الحمرة من الغروب إلى وقت العشاء الأخير، فإذا ذهب، قيل: غاب، حكاه الخليل. وقال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب كالشفق، وكان أحمر، وقال [ ص: 151 ] ابن قتيبة: الشفق الأحمر من الغروب إلى وقت العشاء الآخرة، ثم يغيب، ويبقى الأبيض إلى نصف الليل. وقال الزجاج: الحمرة التي ترى في المغرب بعد سقوط الشمس، وهذا هو المشهور في كتب اللغة العربية، وهو قول الشافعي وجماعة من الأئمة .

وقيل: الشفق البياض، وهو قول أبي هريرة وجماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه، وجماعة من أئمة اللغة، ويروى عن أبي حنيفة قول آخر: أنه الحمرة، وتفصيل ذلك بالاحتجاج لكل من الفريقين في كتب الفروع .

( وقد أقسم الله تعالى به) في كتابه العزيز ( فقال: فلا أقسم بالشفق ) والشفق ما بين العشاءين ( والصلاة في ذلك الوقت هي ناشئة الليل) المذكورة في القرآن إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا أي: ساعته؛ لأنه أول نشء ساعاته، وقيل: المراد به قيام الليل، وفي لسان الحبشة يقولون: نشأ إذا قام ( وهو إنى) بكسر الهمزة وسكون النون بمعنى الوقت ( من الآناء) أي: الأوقات المذكورة ( في قوله -عز وجل-: ومن آناء الليل فسبح ) والمراد بآناء الليل هنا العشاء الأخيرة ( وهي) أي: الصلاة في هذا الوقت هي ( صلاة الأوابين) ويقال: صلاة الغفلة ( وقيل: هي المراد بقوله: تتجافى جنوبهم عن المضاجع روي ذلك عن الحسن) أي: البصري في القوت، قال يونس بن عبيد، عن الحسن، في قوله تعالى: تتجافى الآية، قال: الصلاة ما بين العشاءين .

( وأسنده ابن أبي زياد) هكذا في النسخ المعتمدة من الكتاب، وهكذا هو في نسخ القوت، ووجد في بعض نسخ الكتاب: ابن أبي زيادة، وفي بعضها: ابن أبي الزناد، وهي النسخة التي اطلع عليها الحافظ العراقي، فاعترض عليه، وفي بعض نسخ القوت: ابن أبي الدنيا، وهو غلط .

( إلي النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل عن هذه الآية) تتجافى جنوبهم عن المضاجع ( فقال -صلى الله عليه وسلم-: "الصلاة بين العشاءين" ثم قال: "عليكم بالصلاة بين العشاءين؛ فإنها مذهبة لملاغاة النهار ومهذبة آخره") وفي بعض النسخ: "فإنها تذهب بملاغاة النهار وتهذب آخره" وهكذا هو في القوت، قال: ( والملاغاة جمع ملغاة، من اللغو) أي: تسقط اللغو، وتصفي آخره، هذا لفظ القوت، ولا يخفى أن الملاغاة مفاعلة من اللغو، وأما الملغاة فجمعه الملاغي كمسعاة ومساع، فتأمل ذلك .

قال العراقي: نسبة المصنف هذا إلى ابن أبي الزناد معترض، إنما هو إسماعيل بن أبي زياد، بالياء المثناة من تحت .

رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، من رواية إسماعيل بن أبي زياد الشامي، عن الأعمش، حدثنا أبو العلاء العنبري، عن سلمان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بالصلاة فيما بين العشاءين؛ فإنها تذهب بملاغاة النهار، ومهذبة آخره" وإسماعيل هذا متروك، يضع الحديث، قال الدارقطني: واسم أبي زياد مسلم، وقد اختلف فيه على الأعمش. اهـ .

قلت: هو في كتاب الديلمي: "ومهذرة آخره" وقد ذكر الذهبي إسماعيل هذا في ديوان الضعفاء، وأنه روى عن أبي عون، وأنه كان ممن يضع الحديث، ونقله عن الدارقطني، وذكر إسماعيل بن أبي زياد آخر، ويعرف بالشفري، قال ابن معين: وهو كذاب. ولكن المراد هو الأول، المعروف، الشامي .

( وسئل أنس) بن مالك -رضي الله عنه-: ( عمن ينام بين العشاءين) أي: بين المغرب والعشاء ( فقال: لا يفعل ذلك فإنها الساعة المعنية) أي: المرادة ( بقوله -عز وجل-: تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) ولفظ القوت: فإنها هي الساعة التي وصف الله المؤمنين بالقيام فيها، فقال: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يعني: الصلاة بين المغرب والعشاء.

قلت: رواه ابن مردويه من حديث أنس "أنها نزلت في الصلاة بين المغرب والعشاء" ورواه الترمذي وحسنه بلفظ: "نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة" وسيأتي في فضل إحياء ما بين العشاءين أن السائل هي امرأة أنس، رواه فضيل بن عياض، عن أبان بن عياش.

( وسيأتي فضل إحياء ما بين العشاءين في الباب الثاني) من هذا الكتاب ( وترتيب هذا الورد أن تصلي) إذا فرغ المؤذن من أذان المغرب ركعتين خفيفتين بين الآذان والإقامة، قال صاحب العوارف: وكان العلماء يصلون هاتين الركعتين في البيت يعجلون بهما قبل الخروج إلى الجماعة؛ كيلا يظن الناس أنها سنة مرتبة، فيقتدى بهم؛ ظنا منهم أنها سنة. اهـ .

وفي هاتين الركعتين خلاف بين العلماء، تقدم ذكره في كتاب الصلاة، وتقدم الكلام أيضا على حديث بريدة: "بين كل أذانين صلاة".




الخدمات العلمية