الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وليراع فيه ثلاثة أركان .

الركن الأول رأس المال ، وشرطه : أن يكون نقدا ، معلوما ، مسلما إلى العامل فلا يجوز القراض على الفلوس ، ولا على العروض ، فإن التجارة تضيق فيه .

التالي السابق


(وفيه ثلاث أركان) أي: أركان صحته ثلاثة، ونص الوجيز: ستة، وزاد على الثلاثة: الصيغة، والعاقدين، وسيأتي الكلام على ذلك .

(الركن الأول: المال، وشرطه: أن يكون نقدا، معلوما، مسلما إلى العامل) ولفظ الوجيز: وشرائطه أربعة وهي: أن يكون نقدا، معينا، معلوما، مسلما، وهكذا هو في المحرر .

ثم أشار إلى محترزات القيود فقال: (فلا يجوز القراض على الفلوس، ولا على العروض، فإن التجارة تضيق فيه) أي: يشترط في المال المدفوع إلى العامل في القراض أن يكون نقدا، وهو الدراهم، والدنانير المضروبة، وذلك لمعنيين، أحدهما: أن القراض عقد معاملة مشتملة على الغرر، لكون العمل فيه غير مضبوط، والربح غير موثوق به، وإنما جوزت للحاجة، فيختص بما يسهل التجارة به، وهو النقدان .

والثاني: أن النقدين ثمنان لا يختلفان بالأزمنة والأمكنة إلا قليلا، ولا يقومان بغيرهما، وغيرهما يقوم بهما، والعروض تختلف قيمتها، فلو جعل العروض رأس مال يلزم أحد الأمرين: إما أخذ المالك جميع الربح، أو أخد العامل بعض رأس المال، فبقيد النقدية احترز عن التبر، والحلي، وكل ما ليس بمضروب; لأنها مختلفة القيمة، كالعروض، والعروض لا يجوز القراض بها; لما ذكرنا من اختلاف قيمتها; ولأنه لو جعل العروض والحلي والتبر رأس مال لوجب وقت الرد رد مثله، إن شرط ذلك أو رد قيمته، فربما لا يوجد مثل ذلك، أو يوجد لكن بقيمة أرفع، فيحتاج العامل إلى صرف جميع ما معه في تحصيل رأس المال، فيذهب الربح ورأس المال، وإن شرط رد القيمة فلا يجوز قيمة يوم المفاصلة; لأنه لدى العقد غير معلوم; ولأنه قد تكون قيمته حال العقد درهما، ووقت المفاصلة عشرة، أو بالعكس، فيؤدي إما إلى ضرر الملك، أو ضرر العامل .

ولا يجوز على الدراهم والدنانير المغشوشة; لأنها نقد وعرض، وحكى الإمام وجها أنه يجوز القراض على المغشوش اعتبارا برواجه، وادعى الوفاق على امتناع القرض على الفلوس، لكن صاحب التتمة ذكر فيها الخلاف أيضا، وعلم في الوجيز على قوله: ولا على الدراهم المغشوشة، بالحاء والواو، إشارة إلى خلاف أبي حنيفة، والوجه الذي قدمناه عن الإمام، قال شارح المحرر: قال أبو حنيفة: يجوز على المغشوش إذا لم يكن الغش أكثر، وعلى قياس قوله: إن كان لدى الصفة قدر الغش في المغشوش معلوما، وقدر الخالص أيضا كذلك، لا بأس .

قلت: وهذا الذي نسبه إلى أبي حنيفة هو قول لمحمد، وأما عند أبي حنيفة: إنما يصح المضاربة بما تصح به الشركة، وهي الدراهم والدنانير لا غير، ووافقه أبو يوسف.

وقال ابن أبي ليلى: تصح المضاربة في الكيل والموزون; لأنهما من ذوات الأمثال، فيمكن تقدير رأس المال بمثل المقبوض. وقال مالك: تجوز بالعروض; لأنها متقومة، يستربح عليها بالتجارة عادة، كالنقدين، فيما هو المقصود بالمضاربة، وأمكن تقدير رأس المال بالقيمة; إذ هي متقومة; ولهذا تبقى المضاربة عليها، فكذا يجوز الابتداء بها .

ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن. والمضاربة بغير النقود تؤدي إليه; لأنها أمانة في يد المضارب، وربما زادت قيمتها بعد الشراء، فإذا باعها شركه في الربح، فحصل ربح ما لم يضمن; إذ المضارب يستحق نصيبه من غير أن يدخل شيء في ضمانه، بخلاف النقود فإنها عند الشراء بها يجب الثمن في ذمته; لأنها لا تتعين بالتعيين، فما يحصل له بذلك فهو ربح ما ضمن، والمكيل والموزون عروض، ألا ترى أنها تتعين بالتعيين، كأول تصرف يكون فيها بيع، وقد يحصل بهذا البيع ربح، بأن يبيعه برخص [ ص: 467 ] سعره بعد ذلك، فيظهر ربحه بدون الشراء، فيكون هذا استئجارا على البيع بأجرة مجهولة، فيكون باطلا، كما في العرض .

ولو دفع إليه عرضا وقال: بعه واعمل بثمنه مضاربة جاز، وقال الشافعي: لا يجوز; لأن فيه إضافة عقد المضاربة إلى ما بعد البيع وقبض الثمن. ولنا: أنه وكله ببيع العروض أولا، وهو كبيعه بنفسه، ثم عقد المضاربة على الثمن المقبوض، وهو كالمقبوض في يده، فوجب القول بجوازه، كما إذا قال: بع هذا العبد واشتر بثمنه هذا العبد; لأن المضاربة ليس فيها إلا توكيل، وإجارة، وكل ذلك قابل للإضافة على الانفراد، فكذا عند الاجتماع، وهذا لما عرف أن الإضافة إلى الزمان المستقبل غير التعليق بالشرط، ألا ترى أن الإضافة سبب للحال دون التعليق .

ولو دفع إليه العرض على أن قيمته ألف درهم مثلا ويكون ذلك رأس مال فهو باطل; لأن القيمة تختلف باختلاف المقومين، فلا يمكن ضبطها، فلا يصلح رأس المال، والله أعلم .

قال المصنف في الوجيز: واحترزنا بالمعين عن القراض على دين في الذمة ولو عين وأبهم وقال: قارضتك على أحد هذين الألفين، والآخر عندك وديعة، وهما في كيسين متميزين، ففيه وجهان .

ولو كان النقد وديعة في يده، أو غصبا، وتقارضا عليه، صح، وفي انقطاع ضمان الغصب خلاف، اهـ .

وقال صاحب المحرر: الشرط الثالث: أن يكون المال المدفوع إليه معينا، فلو قارض على دراهم غير معينة ثم أحضرها في المجلس وعينها، حكى الإمام عن القاضي: القطع بالجواز، كما في الصرف ورأس مال السلم، وأورد صاحب التهذيب المنع، وهو ظاهر مفهوم المحرر، فلا يجوز أن يقارض المالك مع العامل بدين له في ذمة الغير; لأنا إذا لم نجوز القراض على العروض لعسر التجارة والتصرف فيها ففي الدين أولى بالمنع; لأنه أعسر من العروض، فلو قبض العامل وتصرف فيه لم يستحق الربح المشروط، بل الجميع للمالك، وللعامل أجر مثل التصرف .

وكذا لا يجوز أن يقارض صاحب الدين المديون; لأنه إذا لم يصح والدين على الغير فلأن لا يصح والدين عليه كان أولى; لأن المأمور لو استوفى ما على غيره يملكه الآمر، وصح القبض، وما على المأمور لا يصير للمالك بعزله من ماله وقبضه للآمر .

(فصل)

وقال أصحابنا: ولو قال: اقبض ديني من فلان، واعمل مضاربة به جاز; لأن هذا توكيل بالقبض، وإضافة للمضاربة إلى ما بعد قبض الدين، وذلك جائز، بخلاف ما إذا قال: اعمل بالدين الذي لي عليك، حيث لا تجوز المضاربة; لأن المضاربة توكيل بالشراء، والتوكيل بالشراء بدين في ذمة الوكيل لا يصح، حتى يعين البائع المبيع عند أبي حنيفة قبل التوكيل بالكلية، حتى لو اشترى كان للمأمور، فكذا يصح التوكيل بقبض ما في ذمة نفسه، فلا تتصور المضاربة فيه، وعند أبي يوسف، ومحمد: يصح التوكيل بالشراء بما في ذمة الوكيل من غير تعيين ما ذكرنا، حتى يكون مشتريا للآمر، لكن المشترى عروض، فلا تصح المضاربة بها على ما بينا، والله أعلم .




الخدمات العلمية