الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
" الثالث : أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه بحيث يرى بياض إبطيه وروى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آتى الموقف بعرفة ، واستقبل القبلة ، ولم يزل يدعو حتى غربت الشمس .

وقال سلمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ربكم حيي كريم يستحي ، من عبيده إذا رفعوا أيديهم إليه أن يردها صفرا .

وروى أنس أنه صلى الله عليه وسلم " كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه في الدعاء ، ولا يشير بأصبعيه .

" وروى أبو هريرة رضي " الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مر على إنسان يدعو ويشير بإصبعيه السبابتين ، فقال صلى الله عليه وسلم أحد أحد " أي : اقتصر على الواحدة .

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه " ارفعوا هذه الأيدي قبل أن تغل بالأغلال

التالي السابق


( الثالث: أن يدعو مستقبل القبلة) فقد ورد: "أكرم المجالس ما استقبل به القبلة" وقد تقدم ذلك في [ ص: 34 ] كتاب الصلاة .

( ويرفع يديه) وقد اختلف في كيفيته، فقال الحليمي: يرفعهما حتى يحاذي بهما المنكبين، وغاية رفعهما حذو المنكبين، واختار المصنف أن يكون رفعهما ( بحيث يرى بياض إبطيه) وهكذا أورده الطرطوشي في كتاب الدعاء، وقد استدل المصنف على الاستقبال ورفع اليدين بأحاديث وآثار، فقال:

( روي عن جابر بن عبد الله) الأنصاري رضي الله عنهما ( أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى الموقف بعرفة، واستقبل القبلة، ولم يزل يدعو حتى غربت الشمس) فاستدل به على سنية الاستقبال، والحديث رواه مسلم في صحيحه دون قوله: "يدعو" وقال مكانه: "واقفا" .

وللنسائي من حديث أسامة بن زيد: "كنت ردفه بعرفات فرفع يديه يدعو" ورجاله ثقات. وهذا يصلح أن يكون دليلا للرفع مطلقا من غير تقييد، وقد تقدم شيء من ذلك في كتاب الحج .

( قال سلمان) الفارسي، رضي الله عنه: ( قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا) أي: خالية .

قال العراقي: رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وقال: إسناده صحيح على شرطهما. اهـ .

قلت: هذا لفظ أبي داود، إلا أنه قال: "إذا رفع يديه إلى السماء" ولفظ الترمذي: "أن يردهما خائبتين" .

( وروى أنس) بن مالك -رضي الله عنه- ( أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه في الدعاء، ولا يشير بأصبعيه") قال العراقي: رواه مسلم دون قوله: "ولا يشير بأصبعيه" والحديث متفق عليه، لكن مقيد بالاستسقاء. اهـ. .

قلت: لفظ مسلم: "كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه" قال القاضي عياض: وهذا يدل على رفعهما فوق الصدر وحذو الأذنين؛ لأن رفعهما مع الصدر لا يكشف بياض الإبط .

( وروى أبو هريرة) -رضي الله عنه- ( "أنه -صلى الله عليه وسلم- مر على إنسان يدعو وهو يشير بأصبعيه السبابتين، فقال -صلى الله عليه وسلم- أحد أحد") قال العراقي: رواه الترمذي وقال: حسن، وابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. اهـ .

وقال المصنف: معنى أحد ( أي: اقتصر على الواحدة) أي: أشر بأصبع واحدة؛ فإن الذي تدعوه واحد .

قال الزمخشري: أراد وحد، فقلبت الواو همزة، كما قيل: أحد وإحدى وأحاد، فقد تقلب بهذا القلب مضمومة ومكسورة ومفتوحة. اهـ .

وحديث أبي هريرة هذا لفظه: "أن رجلا كان يدعو بأصبعيه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أحد أحد" وقال الترمذي: حسن غريب، وصححه الحاكم، وأقره الذهبي، وقال الهيثمي: رجاله ثقات .

ويروى هذا الحديث أيضا عن أنس، وفيه التصريح بذكر الرجل المبهم، رواه أحمد، ولفظه: "مر النبي -صلى الله عليه وسلم- على سعد وهو يدعو بأصبعين، فقال له -صلى الله عليه وسلم- أحد يا سعد" قال الهيثمي: لم يسم تابعيه، وبقية رجاله رجال الصحيح .

ورواه الحاكم في المستدرك، عن سعد بن أبي وقاص قال: "مر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا أدعو بأصبعين، فقال: أحد أحد، وأشار بالسبابة".

ثم إن عدم الإشارة في الدعاء بأصبعين عده الحليمي والطرطوشي والزركشي من شروط الدعاء، لا من آدابه، وقالوا: من شرطه أن لا يشير إلا بالسبابة من يده اليمنى فقط .

وأخرج أبو داود، عن ابن عباس مرفوعا: "المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوها، والاستغفار أن تشير بأصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعا".

( وقال أبو الدرداء) -رضي الله عنه-: ( "ارفعوا هذه الأيدي بالدعاء قبل أن تغل بالأغلال" ) رواه الفريابي في الذكر، والأغلال جمع غل بالضم، وهو طوق من حديد يجعل في العنق .

ومما يتعلق برفع الأيدي عن علي -رضي الله عنه- مرفوعا قال: "رفع الأيدي من الاستكانة التي قال الله عز وجل: فما استكانوا لربهم وما يتضرعون " رواه الحاكم في المستدرك، وقد ذم الله قوما لا يبسطون أيديهم، فقال: ويقبضون أيديهم جاء في التفسير: لا يرفعونها إلينا في الدعاء .

قال الزركشي في كتاب الأزهية: وأما ما ذكره السهيلي في الروض، عن ابن عمر "أنه رأى قوما يرفعون أيديهم في الدعاء، فقال أوقد رفعوها، قطعها الله، والله لو كانوا بأعلى شاهق ما ازدادوا بذلك من الله قربا" فقال الحافظ شمس الدين الذهبي: الصحيح عن ابن عمر خلاف هذا. قال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم، قال: "رأيت ابن عمر رافعا يديه إلى منكبيه يدعو عند القاص" وإسناده كالشمس. اهـ .

فإن قيل: إذا [ ص: 35 ] كان الحق سبحانه ليس في جهة فما معنى رفع الأيدي بالدعاء نحو السماء؟

فالجواب من وجهين، ذكرهما الطرطوشي: أحدهما: أنه محل تعبد، كاستقبال الكعبة في الصلاة، وإلصاق الجبهة بالأرض في السجود مع تنزهه سبحانه عن محل البيت ومحل السجود، فكأن السماء قبلة الدعاء .

وثانيهما: أنها لما كانت مهبط الرزق والوحي، وموضع الرحمة والبركة، على معنى أن المطر ينزل منها إلى الأرض، فيخرج نباتا، وهي مسكن الملأ الأعلى، فإذا قضى الله أمرا ألقاه إليهم، فيلقونه إلى أهل الأرض، وكذلك الأعمال ترفع، وفيها غير واحد من الأنبياء، وفيها الجنة التي هي غاية الأماني، فلما كانت معدنا لهذه الأمور العظام، ومعرفة القضاء والقدر تصرفت الهمم إليها، وتوفرت الدواعي عليها .

قال: ولقد أجاب القاضي ابن فريعة لما صلى ذات ليلة في دار الوزير المهلبي وأبو إسحاق الصابئ يرمقه، فأحس به القاضي، فلما سلم قال له: ما لك ترمقني يا أخا الصابئة، أحببت إلى الشريعة الصافية؟ قال: بل أخذت عليك شيئا، قال: ما هو؟ قال: رأيتك ترفع يديك نحو السماء، وتخفض بجبهتك على الأرض، فمطلوبك أين هو؟ فقال: إننا نرفع أيدينا إلى مطالع أرزاقنا ونخفض جباهنا على مصارع أجسادنا، نستدعي بالأول أرزاقنا ونستدفع بالثاني شر مصارعنا، ألم تسمع قوله تعالى: وفي السماء رزقكم وما توعدون وقال: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى فقال المهلبي: ما أظن أن الله خلق في عصرك مثلك. اهـ .



* ( تنبيه) * هل يجوز رفع اليد النجسة في الدعاء خارج الصلاة؟

قال الروياني في البحر في باب إمامة المرأة: يحتمل أن يقال: يكره من غير حائل، كتحريم مس المصحف بيده النجسة وهو على طهارة، فيزول لكونها بحائل، وإذا جاز هذا فيما طريقه التحريم جاز أيضا فيما طريقه الكراهة في الموضعين؛ لأن المقصود رفع اليد دون الحائل، والتعبد بهذا ورد، ويخالف مس المصحف؛ لأن اليد فيه في حرمة التعبد كالحائل، ولا يجيء القول فيه بالتحريم. اهـ .



* ( تنبيه) * آخر: لا يستثنى من مسألة رفع اليدين في الدعاء إلامسألة واحدة، وهي الدعاء في الخطبة على المنبر فإنه يكره للخطيب رفع اليدين فيه، ذكره البيهقي في باب صلاة الجمعة، واحتج بحديث في صحيح مسلم صريح في ذلك .




الخدمات العلمية